انت هنا : الرئيسية » الواجهة » فاطمة عطفة: حياتنا.. بين “الجمر والرماد”

فاطمة عطفة: حياتنا.. بين “الجمر والرماد”

فاطمة عطفة، المصد:  رأي اليوم

الشعر في تراث أمتنا “ديوان العرب”، ويؤكد النقاد والباحثون أن الرواية في أيامنا أصبحت ديوان العصر، حتى كاد القارئ العربي أن ينسى الفنون الأدبية الأخرى من قصة ونقد ومسرح وبحث فكري وذكريات؛ وقد تطوعت الجوائز لتأكيد هذه الأيقونة التي انفرد بها الشعر العربي عبر الأجيال. لكني، بعد أن أتعبتني عزلة الجائحة من قراءة الروايات، خطر لي أن أعود لأستحضر في ذاكرتي وأقلب في المكتبة صفحات مما قرأت أيام الشباب، انطلاقا من شعوري بأن أجدادنا وآباءنا يستحقون أن نتفرغ لهم بين حين وآخر ونعطيعهم ولو ساعة في الشهر من حياتنا اللاهثة وراء كل جديد، قد لا يكون فيه ذرة من راحة أو فائدة. وكان كتاب “الجمر والرماد”: مذكرات مثقف عربي” لهشام شرابي من أوائل الكتب التي أشرقت أمام نظري، وكنت قد استمتعت بقراءته في مرحلة مبكرة من صحبتي مع الكتب. وهذا الباحث الكبير يمتاز بأسلوب سلس دافئ وجذاب، وهو يروي سيرة حياته منذ نشأته في يافا بفلسطين ودراسته الجامعية في لبنان، واستكمال دراسته في شيكاغو بالولايات المتحدة، إضافة إلى عمله أستاذا في جامعة جورج تاون.

ومنذ البداية يبين لنا شرابي الفارق الكبير بين الدراسة في لبنان والدراسة في الولايات المتحدة، وخاصة في معاملة الأساتذة لطلابهم وطريقة التفكير والعمل. في المرحلة الأولى جميعهم كانوا “يمارسون التهكم والهزء”، وبعضهم يمضي الدرس وهو يمسح بنظراته سقف الغرفة! وفي العالم الجديد، تعلم الكثير وتخلى عن الكثير من نظراته وأحكامه السابقة. ويكشف لنا الكاتب عن ميوله الدراسية قائلا: “في مذاكراتي التي أخذت بكتابتها في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1944، ترد هذه العبارة: “أحاول تحقيق أمرين: أن أتفهم نفسي الداخلية من خلال علم النفس، وأن أستعمل عقلي بشكل منظم”. وهو يستغرب أن يفكر بعلم النفس، مع أنه حتى ذلك الوقت لم يسمع بماركس أو فرويد.

ويقتبس شرابي في مطلع كتابه مقولة من توماس مان: “لا يعيش الفرد حياته الشخصية فحسب، بل أيضا حياة عصره وحياة جيله”. ويشكل هذا الاقتباس مفتاحا مهما لما يتناول الكاتب في مذكراته من أحداث. ومنذ البداية، نواجه الاستعمار الفرنسي في لبنان، وموقف الكاتب الواضح ضد كل استعمار، كما لا يتردد في انتقاد نفسه وأبناء عصره المتعلمين، من كهول وشباب، لأنهم كانوا يتركون مهمات النضال الوطني على أكتاف الفلاحين والفقراء، بينما يتفرغ الطلبة للعلم والثقافة مكتفين بأفكارهم في الدفاع عن قضايا بلادهم ضد الاستعمار.

المذكرات تفتح النوافذ على إضاءة مرحلة أساسية من تاريخنا المعاصر، في أحواله المختلفة، وخاصة السياسة والحزبية، دون أن ننسى جراحات فلسطين ومآسي التشريد وأحلام العودة. وحين يمضي مع رفاقه صيف 1947 في جبال لبنان، لم أكن قد جئت إلى هذه الحياة، وهو يسحر قارئه بتلك الأحلام والآمال الكبرى والعلاقات الحميمة بين رفاق الفكر الملتزم بقضاياه، بعيدا عن كل حقد أو استهتار. إن قراءة كتاب نحبه بين مرحلتين تفصل بينهما ثلاثين عاما أو أكثر، تفتح أمامنا آفاقا جديدة وآلاما شتى من المرارة والحسرة، أين كنا وأين أصبحنا.

لكن الجانب الشيق والمضيء الذي شغلني واستأثر بتقديري للكاتب وكتابه، هو شعوري كقارئة بأن هشام شرابي المفكر والشاهد على نضالات ومآسي جيل كامل مسكون بالحماسة والتحدي وبعد النظر، هو صديق حميم يحدثك بكل إخلاص عميق وبساطة آسرة، حتى إنك لا تستطيع التوقف أو الابتعاد عن الاستماع إلى حديثه، سواء كان مفرحا أو محزنا. وأنا هنا لا يعنيني من يتمسك برأيه انطلاقا من موقف حزبي ضيق أو عنصري منافس أو معاد لأفكار الكاتب.

وإذا كانت دروس التاريخ تكشف لنا تجارب إنسانية غنية فكرا وسلوكا وحكمة، وتضيء لنا دروب المستقبل، ولو بصورة غير مباشرة وتعلمنا الكثير، فإن هشام شرابي الذي ترك لنا ثروة فكرية مهمة في العديد من البحوث، ومنها علم الاجتماع، إضافة إلى هذه المذكرات، يترك في نفوسنا تأثيره الإنساني والوطني العميق، ويدعونا ألا نفقد البوصلة، كما فقدها كثيرون قبلنا أو ممن هم حولنا، إما يأسا أو تطرفا أو تحزبا وانغلاقا. ولا شك أن شدة الإعجاب بالكاتب والكتاب تثير في نفس القارئ مشاعر من الحزن والكآبة يصعب تجاوزها أو الخروج منها.. فأين نحن من تلك الأيام؟ هل نكبس الملح على الجرح ونبقى ساكتين، أو على الأقل، كما قال سعد الله ونوس: سنظل محكومين بالأمل.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى