انت هنا : الرئيسية » الواجهة » أحلام يقظة !

أحلام يقظة !

قصّة قصيرة

بقلم زيد عيسى العتوم

هو شاب في ثلاثينيات العمر وأحلامه تستوطن عشرينياته, كان يظن أن لكل منا عينان تريان ما تجود بهما الحياة, ولم يدرك تلك العيون المغمضة في قرارتنا صوب أنفسنا الملبدة بالكهوف الغارقة بالظلمة والغموض, وكان يحسب أن قوت يومنا هو منتهى حاجة اجسادنا ومبتغاها, ولم يعرف أن مشاعرنا وصراعاتنا وتخبّطات ارواحنا وتساؤلاتنا الحائرة ربما تحتاج غير ذلك, كان يتأمل نفسه في مرآةٍ لم تعكس غير تلك الصورة المتجمدة, ولم يأبه لأن ينتزع نفسه فيراها بأطرافها التي لم تمسسها يد فضوله الغائب, ولم يبصر يوماً تلك الثنايا والزوايا التي لم تخطر له ببال, فيومه غالباً ما يهادن الواقع ويلازم المألوف, وإن كان خياله المسترسل قد يتجاوز الجدران ويعتلي السقوف, وقد تمضي الساعات منصتاً ومنتبهاً يتقن الحضور, أو مبتسماً ومحدّقاً في قلةٍ قليلةٍ من السطور, لم يلحظ القلق ولم يؤرقه التوتر فلكلٍ منها في لحظاته حلول وبدائل, حيث يطلق العنان لعالمه الحنون كما ارتضى وأحب أن يكون, فهو المسافر الوحيد, في رحلة تتراكض بين يومه الوليد وخياله العتيد.

وفي يوم شاءت الأقدار له أن يُعّكر سواه, ويميط أحد الدخلاء لثامه بسبر محتواه, وتُنزع قدسية إعمال ذهن الشاب في إشباع مبتغاه, في أحلام مبصرة كان وما زال ينشد فيها راحته ورضاه, أخبره فيه أحد رفاقه بأنه يلحظ سرحانه المكرّر وشروده الغير مبرّر, وبأنه وبحكم قربه منه يحسبه لا يتوانى عن هجر الواقع بالهروب, وبأنه قد أصبح بطيئاً في ردوده ويثير الشكوك, ونصحه بضرورة مراجعة أحد أطباء النفس في اقرب وقت, معتذراً عن نصيحته تلك, ومبرراً طلبه ذلك بلطف مقصده وخشيته الصادقة نحوه, ضحك الشاب بصوتٍ مرتفعٍ بينما وجهه يرتفع أيضاً الى الأعلى , ثم توقف فجأة وحدق بصديقه الذي غدت تعلوه قسمات الندم, وأخبره بأن ليس هناك ما يعكّر صفو حياته كما يعتقد, وبأنه يحيا نمطاً طبيعياً من العيش لا يحتاج التشكيك والتمحيص في تفاصيله, وأن الامعان في التفكير والتخيّل حال كل من أقدم على فعل شيء, ومع ذلك فلا ضير لديه في تحقيق طلبه تقديراً ومحبة, فليس هناك ما يمنعه من ذلك, ثم عاود كلاهما الضحك هذه المرة ربما رغبة في الحديث عن غير ما استقرت الأمور عليه.

بعد ثلاثة أيام وفي غرفة انتظار تكاد تكون خانقة, يملأها الصمت وتصبغها الريبة, كل من فيها يرقب الآخر بقصد او بدون قصد, بالكاد يخطف الشاب نظرة تخبره عن تلك المحطة الغريبة, التي شاء القدر لروحه أن تضع أوزارها فيها, وفجأة أحسّ بمن يحدّق به من الجهة اليمنى, كان ذلك الخيال المتجمّد قربه لا يتزحزح ولا يغير وجهته, عدا ذلك التصاعد الهستيريّ من سيجارته التي لوّثت الرؤيا وأنعشت ضبابية المكان, التفت الشاب صوبه مستكشفاً, فرأى امرأة سمراء البشرة مكتنزة الوجه, تفتح عينيها بمنتهى القسوة, وتطبق بفمها المرتجف على ما تبقى من سيجارةٍ مهلهلة, كانت كمن يصارع الموت بأن يسرق آخر شهقات الحياة, ظلت ترقبه بصمت يكمّم الحال وتسلب عينيها حقّها بأن ترمش, ثم تفجّرت ضحكاتها كما لو كانت تزلزل كلّ ما حولها, وتستأسد بضجيجها على المكان, ولم يقطعها سوى صوت شقّ رهبة الشاب بأن نطق اسمه منادياً, ودعاه لرؤية الطبيب حالاً, دخل الغرفة المجاورة في حضرة رجل يتبجّح شعره الأبيض بغزارته المفرطة, وتستتر شفاهه الغليظة تحت شاربه المترامي, وتجاهد نظارته السوداء الثقيلة لمنع أقدامها من الانزلاق عند اسفل حافة أنفه الطويل, طلب من الشاب الجلوس دون أن ينظر اليه, واكتفى بإزاحة يده المنمّشة صوب مقعدٍ أخضرٍ يلامس طاولته المثقلة بما عليها…

الطبيب: هل هذه أول مرة تقوم بمراجعة الطبيب النفسي؟

الشاب: نعم, هذه أول مرة أفعل ذلك.

الطبيب: ما الذي دفعك للقيام بذلك؟

الشاب: نصحني أقرب أصدقائي بضرورة عمل ذلك, لأنني برأيه أكثر من أحلام اليقظة.

الطبيب: هل هو طبيب؟

الشاب: لا, ولكنه يكثر القراءة وذو اطلاع.

الطبيب: هل تعتقد أن أحلام اليقظة مرض؟

الشاب: لست واثقاً, ولكني لا اعتقد ذلك, فما المشكلة لو تخيّل الفقير نفسه غنياً لبضع ساعات, وتصوّر الذي أخفقَ نفسه ناجحاً بعض الوقت, ربما تكون أحلامنا أرحم من واقعنا أحياناً.

الطبيب: وأنت, هل تدخل ذلك العالم الآخر؟ ومتى؟

الشاب: نعم أدخله ولكن دون أن اتعمّد ذلك, وربما تحفّزني قراءة الكتب وسماع الموسيقى للانسلاخ عما حولي, وعند قيادة سيارتي ايضاً, وحتى أنني…

الطبيب: أنك ماذا؟ أرجوك أكمل.

الشاب: أحياناً أقوم بالهمس مع نفسي وأنا متيقظ, أو أستغرب انقباض أو ارتخاء وجهي بشدة عندما افارق الانغماس في أحلامي تلك.طبيب: يبدو أنك ذكي, تستطيع أن تصف نفسك بدقة تثير إعجابي.

الشاب: أشكرك على رأيك, ولكني مجرد أتكلم بصدق عما أشعر به.

الطبيب: هل توافقني أن تلك العوالم ليست الا مجرد وهم لا يفارقه الزيف.

الشاب: أعرف ذلك جيداً, ولكني وربما آخرون بحاجة لذلك الوهم حتى يبصروا الحقيقة.

الطبيب: لم أفهم ماذا تقصد؟

الشاب: ربما تكون تلك الأحلام المنبوذة من قبل الكثيرين تشبه أحلام الليل المباحة من قبلهم, ولكن بفارق واحد فقط, وهو العيون المفتوحة ليس إلا.

الطبيب: ولكنّ الإمعان في ذلك له نتائج مَرَضية, وقد يسبب الكآبة والانعزال.

الشاب: وهل المبالغة في قراءة أو عشق إحدى الروايات, والتعلّق بحبكتها وشخوصها, والشعور بالعيش في صفحاتها, والتجوّل المنفلت فوق خشبتها, واسترداد جزء من طفولتنا الراحلة, والامساك بقطعة من راحتنا الضائعة, وترميم مسحة من سطوتنا الغائرة, سيجلب لنا ذلك الفصام!, فلربما كنا مجرد نختفي لنستطيع العودة, ونغيب لنتمكن من الحضور والبقاء.

الطبيب: هناك الكثير ما قد يُقال في ذلك الشأن, لكن يجب أن لا ننسى أننا خُلقنا لنحيا الواقع لا أن نتخيله, ونحتاج أن نطأ الارض لا أن نفترض ملامستها, وأن نعترف بقوتنا وضعفنا معاً, سأكتفي بذلك اليوم, وأرجو مراجعتي في الاسبوع القادم إن امكن.

الشاب: شكراً لك, وآمل ذلك.

عاد الشاب الى بيته بعد أن أبلغ صديقه بما جرى, وجلس قرب الموقد يتأمل النار التي تمازحه بكلمات التكسّر وتداعب عينيه بشررها المتطاير أحياناً, ازدادت النار توهجاً وتعاظم صوتها مخاطباً, وسقطت كبرى الجمرات فاتكأت على ما دونها, وغدت أخيلة اللهب تتراكض مسرعة فوق الجدران التي تعجز عن الامساك بها, كان الشاب يرى نفسه يذهب الى ذلك الطبيب مرة أخرى, كان ودوداً نحوه لدرجة الإسراف, ويسأله بصوت هادئ عن عصيره المفضل, ويشكره على قدومه مرة أخرى, ويخبره بأن لا شيء يستحق القلق أو يستدعي العلاج, وبأنه هو نفسه لا تفارقه أحلام اليقظة حتى بوجود مرضاه, فهذا حال جميع البشر, ابتسم الشاب ثم نظر الى الموقد ليرى النار, ربما رآها أول مرة!.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى