قصّة قصيرة صراصير الليل
بقلم زيد عيسى العتوم
بين سنابل القمح المتراقصة في ذلك الحقل المذهّب بلونه وروحه, ونسمات خجولة بالكاد تطرق باب ذلك اليوم الهادئ, وتستأذن للعبور المتعرّج بين كل سنبلة وجارتها بكل تواضع, والشمس تتراكض للاختباء خلف تلك السحب الممزقة بين الحين والاخر, كفتاة صغيرة ساذجة تتفانى لتتوارى امام من دعاها لرفقة العمر أول مرّة, فتتجلى السماء برسم تلك الظلال المجنونة فوق رقعة ذلك الحقل الذي أقسم أن لا يأبه لوداعها, استلقى ذلك الفتى على ظهره بينما راحتا يديه المتشابكتان تصنعان عرش رأسه المرتفع قليلاً, كان يرقب السماء كونها ملاذ عينيه الوحيد, وقِبلة افكاره دون فكرة حاضرة بعينها, كان بِصَمته ربما يبحر بين الأزلية والأبدية, لا يستحضر سوى انتظاره لوالده الذي وعده بالقدوم قبل مغيب الشمس, ولا يؤرقه غير الظفر بابتسامة والده ورضاه المرجوّان بعد ساعات قليلة, فقد بدأ يومه مبكراً على غير عادته لأول مرة, وتفانى بعمله طمعاً في المرة الثانية وما يليها, فلن تهزّه نظرات والدته المكللة بالفخر والمكبلة بالقلق, ولن تثنيه لحظات الارتياب في قسمات والده قبل الذهاب, ولن يستحضر براءة البارحة ووهن الماضي, ثم حدّق بعينيه صوب إحدى الغيوم البيضاء الصغيرة, كانت تحاول جاهدة اللحاق بغيمة تكبرها كثيراً, ابتسم لها قليلاً ثم ساقته الذكرى الى ما لا يحب ويرضى, فقد كان ذلك الفتى يشعر منذ طفولته بشيء يجهل نشأته, وبعدم ارتياح شديد يطاول الخوف القاهر لديه, لقد كان يكره الحشرات الصغيرة وخاصة الصراصير منها, وكان ذلك الشعور مرافقاً لحفنة من الاشمئزاز والفزع لديه, وبمجرد اقترابها منه يكون كمن يختنق, لقد كان ذلك الشيء بمثابة وسواسه الذي طالما افزعه واحرجه, وكان منبع سخرية غيره منه, ومكيدة رفاقه التي لا تفارق شهوة سخريتهم, واضغاث احلامه التي تتبارى على مسرح نومه, نظر حوله متفحصاً فلم يجد ضالته المنبوذة, ثم زحزح اكتافه ليغلب الخدر المتمدد بينهم, وشعر ان الوقت يمضي دون ان تدنو ساعة الرجوع, ويكاد الليل المنتظر أن يصحو من غفوته, وينثر ظلمته ويبسط سطوته, ثم خاطب نفسه بأن لا داعي للقلق فالمسألة مجرد بضعة من الوقت ليس اكثر, وعقد العزم على أن يصرف انشغال افكاره بأن يتجول في الحقل, ويختلي بتلك الطبيعة الآسرة, فلا مكان فيها لما هو ليس جميل.
بدأ يتجوّل في ذلك الحقل المنبسط تماما, حيث يكاد استواءه يدحض كروية الارض, ولم يمتلك ذلك الفتى الهائم حينئذ شيئاً من زمام وجهته او قرار نظراته, ولم تأذن الطبيعة الصامتة هناك لغير الهواء المنفلت بالنطق الخافت احيانا, ولم تتجرأ تلك اللوحة الخرساء سوى ببعض التشبه الغامض ببدء الخليقة او هكذا ظنّت, لكنّ الضوء من حوله بدأ يتوارى على استحياء, وستائر الليل تتساقط مجتمعة كحبات مطر تستعجل الهطول, لينتقل بعدئذ الى حيث لا يدري, ويبرح عالمه بسرعة تفوق الخيال, لقد سقط في حفرة اراد والده ان يجعلها بئراً تطفئ ظمأ حقله, وتستجدي جاهدة ما تيسر من الامطار الشحيحة هناك, ونسي تغطيها او الابلاغ الواجب عنها, وكان عمقها يلامس ضعفي طول ذلك الجسد القابع والمرتمي في قاعها المظلم, وفوهتها اضيق من بطنها المتخم بصيده المسكين, وظلمتها قد تجبّرت على النهار فسحلته, وغصبت الليل فسحبته, ورائحتها ليست كمثل ما ألفه الناس, تُضيّق الخناق وتكتم الانفاس, لقد احتاج ذلك الفتى جهداً ليعي ملجأه الجديد, ويستكشف عالمه العتيد, أخذ يحرك اطرافه كطائر ينتفض للتخلص من ثقل البلل الملتصق به, وليدرك ان ذلك المكان ليس قبره او ربما هو كذلك حتى تلك اللحظة, فهو حيّ يرزق في قبوٍ لم يرغب الولوج اليه, اخذ يلتفت لما حوله ولكن ليس هناك من جديد, والقبس الوحيد الذي يرسم انفاسه ويلغي شبح موته هو أن اقدامه ما زالت تمنحه شعوراً بالبقاء, فتمتد يداه لتلمّس ذلك السواد الملتف من حوله, في رحلة عابرة عنوانها شرف المحاولة ونتيجتها ان التراب المتفتت يحيطه من كل جانب, ثم تحدثه بنات افكاره بأن وقت الصراخ قد حلّ, وأن لحظة الاستغاثة قد حان قطافها, ولكن ما الفائدة فلن يصغي اليه احد, ولن يبصره فيعتقه احد, وهنا تشعر ذراعه اليسرى بشيء يمخر عبابها على حين غفلة, فتسرع يده اليمنى لمعرفة الزائر الجديد, وما أن تدركه حتى تندفع بعيداً وفوراً على عاتقها, لم يكن ذلك الزائر المقيت وحيداً, فقد توالى رفقاءه صوب من وقع اخيراً في شباكهم, ولربما صدحت ابواقهم المسمومة فرحاً بمن انسكب في جحرهم العميق, لقد كانت البئر مملوكة لمئاتٍ من صراصير الليل, وقد نازعهن ذلك الفتى ذلك المقام الموحش, ابتدأ ينتفض رهبةً وقهراً وعرف أن طريق الظلمة والوحدة سيسبقها مسلك كئيب من العذاب, وأخذ يذود عن روحه المتشنجة بنوع من الاضطراب والرجف الهستيري, وشعر لحظتها بتعرّق يكتسي جسده كاملاً عدا اطرافه التي غدت باردة, وانتابه اليقين بأن القدر يكرهه وبأن الطبيعة تمقته دون سواه, فقد ارسلا له عمداً اعتى واشرس اعداءه, في اضيق وابعد مكان قد يعتلي خياله يوماً, بدأ الدوار ينازعه ويدعوه ربما لساحة الاغماء والسقوط, فأغمض عينيه وتشبّث بأن يبقى واقفاً ما استطاع, فهذا آخر ما تبقى في جعبته الضيقة, وحاول مدّ عنقه الى الاعلى صوب الفوهة التي لا بد وانه قد سقط منها, واخذ يحاول الامساك والاطباق على اي هواء هو الأبعد عن تلك الاعماق الملوثة, أخذ قلبه يطرق باب صدره المغلق كما لو اصابه الجنون, او رغب بالخلاص والهروب بعيداً عن بقية الجسد, كانت الدقائق تقارع الساعات واللحظات تستبد على كليهما, وفجأة استرخى الفتى قليلاً وسأل نفسه كما لم يفعل من قبل: لماذا لم تؤذيني تلك الصراصير اللعينة حتى الان؟….فأنا مكبّل على مائدتها العفنة…انا لا استطيع مقارعتها ولا ادري ان كانت تدرك ذلك…. ولكنها لا تفعل شيئاً عدا القفز الأرعن والمنفلت…. وبمنتهى الغباء تتسابق نحوي وبشكل متكرر…..لا بد أنها تسخر مني……وتتساءل لماذا يرتجف هذا العملاق خوفاً وقلقاً منا…..بينما هو يستطيع أن يهشّم ويسحق اجسادنا الضعيفة إن اراد…..بالتأكيد إن ذلك الفتى الملقى الينا إما أبله أو مجرد واهم!.
بدأت اصداء الرضى تتسلل في عروق الفتى, وشعر ربما بغبطة الانتصار على ذاته, لكنّ مصيبته الكبرى كانت ما تزال جاثمة على صدره, والبرد الملطّخ بالظلام ينثر احزانه بلا هوادة, ثم ضحك من نفسه دون ان يُسمعها صوته, عندما تبين له أن تلك الصراصير هي رفقاء عزلته, وربما من تبقى لرؤية سقوطه ومن حضر للتلويح له عند رحيله, كم هذا مضحك إن اصبحوا بعدئذ اصدقاءه او احبائه, او امتدت ايامهم واحلامهم بعد فناءه, ثم يسمع اسمه يشق الليل وينبري من السماء, لم يصدق ما توهم سماعه, فلربما هو سراب التائهين واوهام الحالمين, لا هو ليس كذلك ابداً, انه صوت والده يناديه المرة تلو المرة, انها الحقيقة وانه والده القادم اخيراً اليه, لم يفلح في بداية الامر بأن ينطق او يصرخ, فمشاعر اليأس المتراصّة أوشكت أن تشلّ قدرته, وتربط لسانه المتحجر في فمه, وما أن اقترب الصوت أكثر فأكثر, حتى أخذت الشمس تقترب من غير موضعها وفي غير أوانها, وفتحة الضوء تتعاظم من فوقه رويداً رويداً, لتنطلق صرخاته مهللة بعد أن كسّرت قناع الصمت الرابض على قمقمها, وبحبل أزال الداء بأن ربط الارض بالسماء, وبأصوات تقاطعت فيها أحرف الحزن مع كلمات الصفح والرجاء, خرج الفتى من مرقده كطفل يعانق الدنيا بأذرع اللوعة والبكاء, لكنه وهو يترنح بخطاه عائداً الى بيته كمن أبصر وسمع أول مرة, أخذ يتمتم في قرارته بأن هؤلاء الذين طالما خشيتهم بشدة لم اعد اكترث بهم, بل ربما أتفهمهم وأشفق عليهم, والغريب أنني لم أرهم وربما لم يروني, حتى ينتابني ذلك الشعور بعد ما حلّ بي.
كم نتحسّب من الاشياء بسبب البعد عنها وليس أكثر, وكم نقلق ونفزع بسبب ارواحنا الغارقة في الأمل والوهم, فحتى من يخشون الموت ربما سيُلقون خشيتهم جانباً عند لحظة اللقاء به, وربما كنا نرى الدنيا ونستشعرها بشاكلتنا الغامضة التي خُلقت من أجلنا يوم ولدنا, لن ينسى ذلك الفتى تلك الصراصير النائية, وربما تمنى أن يودعها..!