اعتذار من “ماسورة مكسورة”
قصة قصيرة
بقلم زيد عيسى العتوم
كان يوماً صيفياً موحلاً بقسوته وحارقاً بسطوته, كنت اقود سيارتي كأنني التمس البعد عن جهنم, وأبحث عن جنة الخلد في ظل سحابة تأويني, كنت احسب الطبيعة تتخثّر, وقمم الجبال تتصاعد وتتبخّر, وعلى احد الأرصفة يجلس طفل بائس يرقب المارّة بفضوله الجاف, وقد توّج رأسه المبلل بقطعة من ملابسه الرطبة, وأمامي إحدى مركبات نقل الماء تستأسد في منتصف الطريق, لا تفلح قطراتها المنسابة في مصافحة الضوء او حتى ملامسة الطريق, كان مَن يقودها جاحظاً يتلفت يميناً ويساراً, كما لو كان يحمل اكواماً من العتاد, ويشق طريقه الى ثلة من الجنود المرابطين في خنادقهم بعد أن فرغت بنادقهم, وبعد عشرات الأمتار رأيت من ينتظر تلك الحمولة الموعودة, كان رجلاً كهلاً بصحبة ثلاثة من ابناءه, بدت عليهم جميعاً فرحة اللقاء, بمجرد أن أبصرت عيونهم تلك المركبة المندفعة, ومنذ ان ترنّمت آذانهم بصوت كوابحها الحادة, لقد تخيلتهم كما لو كانوا قد عقدوا العزم على ايقافها بأجسادهم إن اكملت مسيرها ولم تتوقف, ابتسمت لسعادتهم البريئة, وحدثتني نفسي عن حال الاخرين في تلك الأزمة الخانقة, وما هي الا لحظات حتى وصلت بيتي ذو البوابات الخضراء, واحسست بجلدي ينسلخ مني وأنا افارق مقعدي المسكين, لابدّ وأنه قد تنفس الصعداء وهلل لفراقي, وأثناء مسيري نحو بيتي متثاقلاً, لفت انتباهي خروج الماء ببطء من بقعة في الاتجاه الاخر من الشارع, اقتربت من تلك النقطة كما لو كنت اقترب من حافة بئر عميق, وحدّقت بها كما لو كانت حفنة متناثرة من دقيق الذهب, لقد كانت المياه تتسرب من تحت طبقات الإسفلت, وبرغم تلك الغبطة العفوية والابتسامة ربما الماكرة, كون تلك الماسورة ستكمل طريقها الى خزان الماء الفارغ اسفل منزلي, لم يغب عن مخيلتي حاجة الكثيرين وشكواهم, لكنني عزمت أن استغل الفرصة, بعد ان تيقّنت قدوم المياه وأبصرتها بأم عيني, فقضيت الساعات وانا اشبع حاجتي وما فوق حاجتي, بأن املأ ما تيسر لي لتخزين الماء رغبةً ورهبة, وبعد ان أكملت نهمي وأرويت عشقي, وتبددت مخاوفي وزال أرقي, وقفت انظر الى تلك البقعة نظرة المنتصر, وتقمّصت رداء من لا يبدي الاهتمام, لكنّ استمرار تسرب الماء دون جدوى لم يمنحني كامل الراحة, ولم يهبني كل الرضا, حيث كانت نظرات الاطفال الغارقة في عطشها, وهيئة والدهم التي تنم عن صعوبة دفع ثمن ما طلبوا, تجرح تلك النفس الغائرة فينا, وتنبت ذلك الشعور الدافئ في اعماقنا.
وبعد انقضاء عشرة أيام عادت المشكلة كما كانت, وعاد الصباح يحمل جزءاً من الكآبة بسبب نفاذ الماء من جديد, وكنت أسمع صوت جيراني وهم يتقاسمون غيظهم, ويتقاذفون اللوم فيما بينهم, وكلّ منهم يتهم أبناءه بالتبذير والإسراف, واثناء تجوالي أمام بيتي كعادتي صباحاً, عاد القدر ليبتسم من جديد, وربما عادت الدماء تتسلل في عروقي كما رجوت, وبدأت بقعة الماء الوليدة تتصابى وتتراقص امامي, كان اندفاعها بمثابة تحية الصباح وأمنيات المساء, وكانت تشقّ عالمها بكل هدوء وروعة, اقتربت منها لأتيقن اطلالتها كما لو كنت اسعى لملامسة مرجل يغلي, ثم شرعت استغل الفرصة وأقبض الغنيمة, لكنّ سعادتي لم تكتمل وافكاري لم تستقر, كون ذلك الكم الهائل من الماء يتبدّد في غير موضعه, ويتسرّب ويترامى في غير ملعبه, فعقدت العزم أن اكون صالحاً, واطلقت العنان لنوازع الرحمة في قلبي, فقُدت سيارتي صوب مصلحة المياه التي يفصلني عنها ما يقرب الخمس دقائق فقط من المسير, كان ايجاد الموقف صعباً في ذلك الصباح المرهق, لكنّ نشوة الخير وألق العطاء كانا كبساط الريح يمهدان لي الطريق اينما أردت, دخلت ذلك المكان كما لو كانت المرة الأولى وربما الأهم, وأحسست أن عتباته كانت مختومة بألاف الاقدام من كثرة قذارتها, وكانت رائحة الدخان المختلِطة ترسم صورة مكفهرة لعدم الرغبة في العمل, وتعزف سنفونية الكسل واللامبالاة, فقصدت مكتب المدير مباشرة, وطرقت بابه مبتسماً فخوراً, كان يقلّب عشرات الاوراق تارة ثم يعود ليقلّبها نفسها تارة أخرى, ثم احسست بنظراته المحمّلة بالعتب والاستياء, كوني قد سبقت فنجان قهوته وساعات تصفّحه لتلك الصحيفة المبللة ببصمات من احضر له قهوته, فأخبرته بما حدث واعلمته بتلك المصيبة المتكرّرة, وحاولت أن اكبح ذاتي وألجم نفسي واختزل ملامحي لأنني قد قدمت من أجل غيري هذه المرة, فشكرني على قدومي وأثنى على غيرتي وصلاحي, ووعدني بأنه سيتصرف فوراً ويأمر بإصلاح تلك المعضلة, وهنا كانت الصاعقة التي ما حسبت قدومها, حيث ابلغني اعتذاره المسبق لأنه سيأمر فوراً وعاجلاً بقطع المياه عن منطقتي من أجل صيانة وإصلاح ما جئت لأجله, وطمأنني بوجهه الآخر أن ذلك لن يحتاج اكثر من أسبوع او عشرة ايام, فأصبحت المشاعر تتلاطم في مخيلتي, وغدت الأفكار تتقهقر في وجداني, كما لو كنت أحنّ الى ايام الشباب وانسام الصبا وانا في كهولتي وضعفي, او أتحسّر على ماض ربما لا يعود, بعد ان لقيته بالنكران وقابلته بالجحود, فخرجت من مكتبه كما لو كنت تائهاً في يومي, يحذوني الأمل بأن ينسى ما قلت ويهمل ما طلبت, وعدت الى بيتي مسرعاً, لأجد بقعة الماء تنحسر سريعاً بفعل حرارة الشمس, وكمية المياه المخزنة لديّ لا تكفيني سوى يومين في أحسن الأحوال, فمشيت يائساً بائساً الى تلك الموقعة الثكلى, ووقفت أمامها لا أجيد الكلام ولا أشعر بغير السوء, تخيلت نفسي شقيقاً لهؤلاء الفتية الصغار وهم ينتظرون قرب ابيهم, او مذنباً قد استلّ جزاءه من جنس عمله, شعرت أن الطبيعة بعبثيتها ربما أرحم منا بتحضرنا وقوانين ارواحنا الحالمة, وأن القدر بخيره وشره لا بدّ وان نُشيد به ونستسيغه ونهضمه, وأن تلك الحركات البسيطة والأصوات الغامضة من ذلك الفراغ المبهم, تستحق مننا الكثير وتستوجب مننا الرعاية, نظرت الى تلك الماسورة المكسورة التي لم أتشرّف بلقائها ومشاهدتها, واستجمعت ما تيسر من الشجاعة والقدرة في نفسي بعد فعلتي تلك, ووقفت قربها وفي ساحتها المبجّلة, وقلت لها: إنني أعتذر منك! .