الاندفاع الى القاع!
مهما تعدّدت الآراء وتباينت, ومهما بُطّنت الذرائع وغدت الأسباب مُقنّعة ومبهمة, سيبقى مبدأ التعايش الدينيّ واحترام الدين الآخر ركيزة لسلام هذا العالم وصفاءه, فالدين سموٌ ورقيٌ وقداسة, وهو منظومةٌ رائعةٌ من العبادات والأخلاق والسلوكيات المطلوبة, تتطلب الوعي والطاعة رغبةً ورهبة, وقد رسّخ الإسلام ونبيه العظيم محمد تلك النظرة وذلك التوجه, فعدّ الإسلامُ الإيمان بالرسل وكتبهم جزءاً لا يتجزأ من أركان ايمانه, ووثّق التشريعات والتوجيهات الشرعية لحفظ كرامة وحقوق غير المسلمين في بلاد المسلمين غير منقوصة.
ربما لا يختلف عاقلان ولا يتناقض متابعان, كون الرسوم المسيئة للرسول محمد في العاصمة باريس تتجاوز حرية التعبير والرأي, وتقفز الى خانة الازدراء والإساءة والجرم المشهود, صوب من تحلّى بالصدق والأمانة والرحمة والعدل, ونحو من تجلّى بالحياء والتواضع والصبر والزهد, الرسول الذي بيّن أن بعثته كانت لإتمام مكارم الاخلاق, والرسول الذي لن تُخدش سيرته العطرة بكيد الكائدين وشطط العابثين, مهما تشدّقت أفواههم وتخبّطت أقلامهم الخائبة, ولكن أيكون الردّ على ذلك بالقتل وقطع الرؤوس وتصويرها بتلك الطريقة الفجّة؟, وهل يكون الردّ بإغفال ما قد يطرأ على الواقع الاجتماعيّ الذي يعيشه وسيعيشه ملايين المسلمين في فرنسا, بعد عقودٍ وعقود من الاستقرار هناك؟, وهل أصبح الرفض صورياً والاستنكار إلكترونياً والشيطان الأكبر فرنسيا!, وهل خَفَت صوت العقل الذي يتصدّره علماء الأمة وعقلائها ومفكريها ومنظريها, الذين تقع على أكتافهم أدوار مناطحة الحجّة بالحجّة وتبيان الصواب وإقناع العامة؟, وهل الدعوات الآنية لمقاطعة المنتجات الفرنسية ستُشفي الغليل وتحقق المراد؟, ولو تموضع أحدنا في قصر الاليزيه مكان الرئيس الفرنسي ماكرون, وجرى ما جرى تجاه أحد المذنبين الكبار في بلده فماذا سيفعل وبماذا سيخاطب شعبه ومريديه؟, وهل حديث الرئيس ماكرون عن ما يسمى ” الإسلام الراديكالي” يُعتبر طعنة ماحقة في العلاقة بين المسلمين وفرنسا, في الوقت الذي اكتوى فيه العرب والمسلمون أنفسهم من مجرمي داعش في سوريا والعراق, وقُتل وعُذب وشرّد الملايين من بربريتهم المتوحشة, ودَفع العرب والمسلمون ثمناً باهظاً في فواتير حماقات القاعدة ومن لفّ لفيفها في عالمنا؟, ولنفرض جدلاً أن –لا قدّر الله – اتفق عشرةٌ من الفتية العابثين والسفهاء, قد جمعهم الخبث وربطتهم الأفكار القذرة, وكان كلٌّ منهم يعيش في بلد مختلف عن الآخر, يتوزعون شرقاً وغرباً, وقاموا – خاسئين– برسم تلك الرسومات المريضة لنبينا وقدوتنا, فهل سندعوا جميعاً لمقاطعة العالم من أقصاه الى أقصاه, والتصدي لتلك الهجمة “الكونية” علينا بالغالي والنفيس, للردّ على ثلّة من المراهقين والحمقى!, وأخيراً هل كانت تلك التصرفات المسيئة صادرة عن الجهات الرسمية للحكومة الفرنسية أم عن أفراد وجماعات تصرّفت من بنات أفكارها؟.
لنتذكّر كيف كان ردّ الكنيسة الكاثوليكية على “شيفرة دافنشي” يوم ظهرت للعلن, لقد كان الرد بمجرّد تصريح مقتضب ليس أكثر, تصريح اعتبر ذلك الكتاب مصدراً للمعرفة الزائفة عن المسيحية, وأن تلك الرواية محض خيال لن تؤثر في معتقدات المسيحيين, وانتهى الرد بمجرد إنكار ما قيل دون المبالغة والتهويل, وكأنّ شيئاً لم يحدث!.
رغم قُبح ما جرى وهول جريمة محاولة الإساءة لنبينا ومعلمنا, وما تبعها من ردة فعل هوجاء بلون الدم, الى متى ستبقى أفعالنا ردوداً مبعثرة على أفعال الآخرين!, يُشعلنا مستصغر الشرر, وتطفئنا بضعة ايام!, ومتى سندرك أن الرسومات والصور لا تُرى إن لم يسلط عليها وابلٌ من الضوء, وأن الأصوات البغيضة لا تُسمع إن لم تتلقفها آذان المندفعين, وأن اطنان الغثاء والردح لم ولن تهُزّ جبل أحد!