فلسطين بين “ذاكرة اللوز” و “ذاكرة الجسد”
بعيداً عن الأقدام الغارقة في وحل الانكسارات, تلك الاقدام المهشّمة أمام ابواب الحرّية وحدود وأحزان الوطن, والعاجزة عن التسلّل بين الأسلاك الشائكة والعاشقة لبعضها, وبالقرب من إطلالةٍ على الأحلام المضاءة بشمعةٍ تكاد ان تحرق شمعدانها العتيق, وعلى مسمعٍ من كلماتٍ ربما غدت مشبوهة, والحانٍ مشوّشة بالكاد تُسمع بعد سماعِ صوت العشب وهو ينمو, وأوهامٍ جائرةٍ بالكاد تبرح النوم وهو يدنو, سيحلّق طائرُ ذاكرة اللوز بصحبة طائر ذاكرة الجسد في رحلة العمر الى فلسطين, لن يأبه بهم أحد ولن يبصرهم أحد, فهما مجرد اراوح متبخّرة, وملائكة تعود من المنفى بمحض ارادتها, وطفولة تتسابق الى فناء بيت جدها القديم, فأجنحتها لا تحمل سوى تلك الذاكرة المحلّقة في الوجدان, وريشها يتمدّد ويناضل لعناق فلسطين.
يعبر الطائران الحدود بمنتهى الخفّة والسرور, يجهلان المعابر والجسور, وبالكاد تبدأ الشمس بإظهار وجهها المنقّب, فيبتسم طائر ذاكرة الجسد مخبراً فلسطين بأنه ليس من الحماقة ليقول بأنه احبها من النظرة الاولى, لأنه قد أحبها من ما قبل النظرة الاولى, ومنذ ان أحبها قد اصبحت لون دهشته وثوب فضوله المزمن, فيضحك منه طائر ذاكرة اللوز ويقلب نفسه في ذلك الفضاء المريح, ويطلب من رفيقه أن يتأنى بعشقه ويقتصد به, فالعشق قد يموت بأي لحظة, وان سلِم من الموت فقد تصيبه الذكريات, فتستقر القلوب منفيةً حتى في اجسادها وربما الى الابد, فيهزّ طائر ذاكرة الجسد رأسه مستغرباً, ويرتفع قليلاً بفعل خصلةٍ من هواء نابلس العليل, ويغرّد لصاحبه بأن عشق فلسطين هو مسلكٌ بلا ضوابط وأرثٌ لا يزحزحه الهوى, وبدونه نتحول الى امة من النمل, تبحث عن قوتها وجحر تختبئ فيه ليس أكثر, ويستمر تحليق الطائران دون انقطاع او تردّد, فكأن لكل منها غيمة ترفعه نحو عشقه وخلوده, لا ينفكّان يترنحان يميناً ويساراً لإطالة الطريق, ويقصدان وجهةً يشق دربها القدر وتمهدها تلك الفطرة الغامضة, وفجأة يتراقص طائر ذاكرة اللوز ويهلل: ها قد وصلنا جنين, كم جميلة تلك البقعة!, انظر الى تلك القبور الصامدة, أشعر بعشق ساكنيها وهم راقدون, واستشعر انفاسهم وهم راحلون, فالذين نحبهم لا يموتون وان سار الناس جميعاً في جنازاتٍ حقيقية لهم, هم فقط يصمتون للأبد ليس أكثر, فيُمعن طائر ذاكرة الجسد في نظرته الى تلك القبور الصامتة, كما لو كان يرغب بالنزول لملامستها والتجوّل بين حجارتها البيضاء, ويُطمئن رفيقه أنه بالرغم من كرهه لمواسم الوداع, الا أنه يجزم بأن الذين نُحبّهم لا نودّعهم, لأننا في الحقيقة لا نفارقهم , فقد خُلق الوداع للغرباء وليس للأحبة, ويبقى الطائران حالمان محلّقان في الاعلى, تتجاذبهم فسيفساء السماء والارض, لم تقطع ضحكاتهم وتهزّ قلوبهم الا تلك المدينة الساحرة, لقد احسّوها قبل ان يروها, ورأوها قبل ان يدركوها, انها القدس!, وانهم يطوفون الان فوق مدينة السلام, فيهتزّ طائر ذاكرة الجسد رهبةً, وتتمسمر اجنحته خجلاً, خجلاً من مدينة يرغب بالاعتذار من ساكنيها, خجلاً من مقابر يُدفن فيها الشهداء على عجل, ومن الأزقة التي يكبر فيها الأطفال ويموتون على عجل, وفوقهم السماء الأكثر قرباً الى الله!, فيسارع طائر ذاكرة اللوز لنجدة صديقه المتجمّد في رفعته, فهو يشاطره حالته ويقاسمه مرارته, ويقول له: اصغي قليلاً, فانا اسمع ذلك الفلسطينيّ الذي لا يُسمح له بدخول القدس, يقول لامرأة تسكن هنا: كوني عيناي!, فتدبّ القشعريرة في المكان, وتختلط تكبيرات المساجد بأصوات أجراس الكنائس, في سيمفونية مناشدة الأرض للسماء, تكسوها هالة من الروعة, ويعلوها قبس من النور.
ثم يفترق الطائران بدون وداع, فلربما يغريهما الرجوع, ويحلقان بدون متاع, فلربما قد أثقلتهم الدموع, ومن ورائهم فلسطين يقيّدها ويثقلها ويدميها الحديد , وتناشدهم العودة من جديد!