نظرة إلى رواية “النفوس الميتة” من الأدب الروسي
المهندس زيد عيسى العتوم
الأردن، إربد جامعة اليرموك
قد يُنظر الى الأدب بمفهومه العام كونه إفراز المجتمع الذي يصدر منه, وانعكاسه الذي يُعبّر عنه, وحبله السرّي الذي لا بدّ وأن يلازمه, فمهما تنوّعت وتجدّدت أغراضه وأشكاله, سيبقى لا يبرح مهمته الأرقى وغايته الأسمى, في التعبير الفطريّ والعفويّ عن خلطة القضايا والهموم, بوجهها المبهج او واقعها المشؤوم, لتبرز وتتجلّى عندئذٍ كينونة الأدب السياسيّ بحسّها العميق, لأنه الأدب الذي سيتولى الريادة في انعاش سيادة القانون واحترام الانسان, وستُلقى على أكتافه العريضة مطرقة الفصل في ذلك الصراع المستمر بين المجتمع وسلطته السياسية, وستوكل إليه إطلاق صفارات الإنذار بين ” تسييس الأدب” و ” تأديب السياسة”, كيف لا والأدب السياسيّ يكتب التاريخ ويوثّق اليوم ويستشرف الغد, متقدّماً على المؤرخين ومتفوّقا على المُنجّمين.
عند قراءة رواية “النفوس الميتة” التي رسمتها الأنامل الساحرة والساخرة, وجسّدتها روح الأديب الروسيّ “نيقولاي غوغول” لتكون تحفته الفنية الخالدة, وأيقونته التي أجبرت مبدعي عصره على ادعاء شرف الخروج من معطفه, نجد رجل الطبقة الوسطى “تشيتشيكوف” يناضل لبناء هيبته ورفع قيمته, بتنفيذ خطته التي تبعث على الاكتئاب العميق والارتياح السحيق بذات الوقت, وذلك بشراء ” النفوس الميتة” والأرواح المهاجرة, فقد كان النظام الاقتصاديّ وقتها غارقاً في الإقطاع, وكان الفلاح مجرد عبد يتقاضى أجره الزهيد من مالك الارض وسيّدها, وكان عدد الأنفس لا يتم اعادة إحصاءه الا كلّ عشر سنين, فتبقى النفس التي تموت موجودةً وسالمةً على ورقها بينما هي راقدة في قبرها وظلمتها, يدفع صاحب الأرض ضرائبها كما لو كانت عاملة تشتمّ أنفاسها كغيرها, فيبادر “تشيتشيكوف” لشراء هؤلاء العبيد الموتى بأرخص الأثمان, مخلّصاً ملّاكهم من ثقل ضرائبهم المستمرة, فيصبح ذلك المحتال مالكاً رسمياً لآلاف الموتى, ونبّاشاً شرعياً ووهمياً لآلاف القبور, فيحظى بثروة تلامس طموحه, ويُمسك بمكانةٍ تتجاوز أحلامه المتصاعدة, مجسّداً ذلك النموذج الشيطانيّ والمسلك القبيح لحصد الأرواح مقابل المال, ملوّحاً “غوغول” بجدلية الدماء التي تخرج من الأجساد بمفهومها الواقعيّ, أما الأرواح البشرية بمفهومها الإنسانيّ فتُنتهك وتُقتل في صمتٍ عميق!.
قد لا يكون ذلك المراوغ يتيم دربه وأسير حقبته, وقد نرى ظلاله السوداوية جاثمةً حتى لو تبدّد الإقطاع ولفظت العبودية أنفاسها الأخيرة, وقد تتبدّل الأنفس الراحلة بالأفكار السحيقة, والأرواح المباعة بالأيدولوجيات المتاحة بلا ثمن يُدفع, فيتنقّل من يكتب التاريخ بين ما رأى من سهوله ووديانه, بينما هو جالس قرب منضدته واهواءه, يُسلّط الضوءَ تارةً ويُغمض العينين ويُطبق الشفتين تارةً أخرى, في قمرةِ السنين الفانية والعهود الميتة, وقد يتنقّل السّاسة بين استحضار وابتكار قريحة الماضي بمكاسبها ومآثرها, بالتفاني بترتيل وتلميع ما تيسّر من نظرياتٍ تشدّ أزر عروشهم, والتنديد بتلك العقد التاريخية التي قد تقضّ مضجع يومهم هذا وحالتهم تلك, وقد يتنقل أيضا تجار الدين وأدعياء وصايته بثقةٍ واقتدار, ينقلون ويتشدّقون بما لذّ وطاب من حكاياته ورواياته, يتمنون استبدال اليوم بالأمس خوفاً وحرصاً على الغد, ويستنبطون شرعية ما يستجدّ من ما ثبت او لم تُثبت صحته وجودة روايته, فيُجمِعون ويدحضون وينقلون ربما حتى مما تكسّرت أوصاله وتيبّست أوراقه لغاية في أنفسهم.
ربما من الصعب احياناً انزال تلك الكثبان المُعيقة, وازاحة تلك الأغشية التي تُعمي العيون الحالمة والرغبات المستبدّة, فيسلك البشر تلك الطرق الضيّقة والمعوجّة, في رحلة البحث عن الحقيقة التي يتمنونها, والنهاية المُثلى التي يتصورونها, فتأخذهم الاوهامُ قبل الأقدار, على رقعةٍ يتنازعها الأخيار والأشرار, رقعةٌ قد نتخيل فيها حياةَ الأنفسِ الميتةِ وقد نتسلى فيها بالأفكار!.