في العبور الى روح أكتوبر
المهندس زيد عيسى العتوم
جامعة اليرموك،إربد، الأردن
ربما من السهل عند وصف انتصار ما ان تمتزج الارقام بالتواريخ, وأن تسطع النتائج العملية فوق تلك الخرائط الملوّنة, وأن تُحصى الثمار وتُحسب الخسائر دون عناء, لكنّ لذلك الانتصار ربما حساباتٌ اخرى وبواعث لا يُستهان بها, اذا نقلنا عين الاعتبار من شخصية الفرد المنتصر الى ذلك الشعب المنتصر, ففي ظروفٍ معينة قد تكون قاهرة وماحقة, تُلقي بظلالها الكئيبة على تكتل من البشر الذي قد ذاق الانتكاسة وتجرّع الهزيمة بمنتهى قسوتها, تحدث تلك الوثبة العالية والنقلة النوعية, عندما تنصهر الشخصية الواعية للفرد في بوتقة مجتمعه, ثم تتشكل حزمة عريضة من الافكار والعواطف التي تتحرك بنفس الوجهة وتطلب نفس المبتغى, حيث لا يلزم لتلك الجموع الناهضة ان تلتقي بذات المكان وبنفس الزمان, لكن يكفيها أن تتأثر جمعاء بحدثٍ قوميٍّ عظيم, او ان تسقط على اكتافها بعض الانفعالات العنيفة التي تقضّ مضجعها, ولا تمتلك حرية اهمالها او حتى انكارها.
في ذكرى السادس من أكتوبر قد يرى البعض ذلك العبور الكبير بمجمل محصلته ومشهده, حيث وثب الابطالُ عبر تلك الجسور المتحمّسة والقوارب المتحفّزة, فأمطروا الضفة الاخرى بلهيب مدافعهم, وكسّروا وازالوا تلك الكمائن بنيران بنادقهم, واغرقوا تلك الكثبان العالية بخراطيمهم المتدفّقة, ووأدوا أسطورة الجيش الذي لا يُغلب, ورفعوا اعلاماً تثبّت البطولة وترسّخ النصر, لكن ذلك العبور قد سبقه عبور الفرد المصريّ الى حاضنته وجمهوره, الجمهور المتسلّح بنزاهته وصبره, والقادر بشدة على افعال البذل والايثار بلا حدود, فالمصالح والحسابات الشخصية قد تُلجم الفرد احياناً, لكنها تتهاوى امام تلك الجماهير التي تشاركت الألم وتقاسمت المرارة, واختارت طواعيةً التفاني العظيم صوب القضايا العظيمة, ففي ذلك الأتون الجمعيّ تتسامى البطولة وترتقي الاخلاق وتتعاظم القدرة على التضحية بالنفس, حيث ينصهر المتنافر ويذوب المتجانس امام عتبات استرداد الحقوق المغتصبة, وقبل ذلك العبور كان عبور حالة اليأس وواقع الإحباط بحيثياته الملموسة والمحسوسة, ذلك الواقع الذي رفض فيه المصريّ قناعة الانكفاء على النفس وفقدان الثقة بجيشه وقيادته, واقعٌ ربما كان له ما يبرره لكنه لم يعد الواقع الملائم لتلك المرحلة الحرجة, فكانت بشائر استنزاف الخصم ضمن سلسلة طويلة من العمليات النوعية خير دليل وأبلغ شاهد, مما شكل تغذية راجعة ومتعاظمة في قرارة المصريّ اينما كان موقعه, وقبله ايضاً منظومة متكاملة ومتلاحقة من العبور الفكريّ والتقنيّ لتطوير الوسائل وتحديث الادوات, وولوج عالم المعركة المنتظرة بما تيسّر من آلة الحرب وسلاح الخديعة, وربما أخيراً العبور الى حالة الشعور بالقوة التي لا تُقهر والمسؤولية المقدسة لتحقيق النصر مهما كانت الأثمان باهظة.
ستبقى ذكرى أكتوبر برحيقها وعطرها منثورة فوق رمال سيناء مدى الدهر, تنعش ذاكرة العروبة وتثبت أن المعجزات الراسخة على الحق لا بد وأن تتحقق, وستبقى آثار أقدام ذلك المغوار المصريّ الصاعد فوق تلك الخطوط الحصينة, وتكبيرات النصر والأيمان والشهادة مثالاً يُستلهم ورمزاً يُدرّس, وسيبقى أكتوبر حياً لا يموت!.