الهجرة من شاطئ الأمل الى شاطئ الموت!
المهندس زيد عيسى العتوم
جامعة اليرموك
فكرةٌ لا تضبطها القيود ومعاناةٌ بلا حدود, وقصصٌ تبدئها بنات افكار الحالمين, وتختمها وحشة امواج التائهين, وبدايةٌ تنشد الغدَ خلسةً على شاطئ مهجور, ونهايةٌ لا تجد من يرثيها او يبكيها ببضعة سطور, ورحلةٌ اولها حفنة من مال ووعود زائفة وضمانات كاذبة وآمال, يصنعها سماسرة الموت وحفاري القبور دون عناء حفر تلك القبور, ورحلةٌ تترنّح فيها تلك القوارب المثقلة, وتتمايل فيها تلك البوصلة التائهة, رحلةٌ قد تقف في اي مكان وقد تنتهي في اي زمان, تنقل من فيها الى عالم المخاطرة, وتُجلسه بدفء اوهام المقامرة, وتُبقي سراب ذلك الصدى الخافت لآهات الغارقين, ونظراتٍ اختصرت اوجاع الراحلين, وقطعة قماشٍ طافيةٍ تتمايل لتأبين من رحلوا بجملتهم, ونعيق غربانٍ تغزوا الفجر وتكسر ذلك الصمت الرهيب, ونسمات تمتطيها رائحة الموت وتعكرها حقيقة اللا عودة, في رحلة البحث عن الشاطئ الاخر!
لا يزال مئات وربما آلاف المهاجرين يلقون حتفهم في مياه البحر المتوسط كل عام, تاركين اوطانهم لسببٍ او جملةٍ من الاسباب المعروفة, اولها وربما اكبرها اقتصاديّ نتيجة تدني مستوى العيش وانتشار البطالة وتجذّر عوامل الفقر, مما يحدّ او يحسم امانيهم في عيشةٍ توصف بالكريمة, بالإضافة لجملةٍ قاسيةٍ من العوامل السياسية والاجتماعية, يفتقدون فيها حقوق المواطنة من حرية التعبير عن الرأي او اعلان وممارسة المعتقد, ويهربون من شظايا الاضطهاد السياسيّ وربما الدينيّ الممارس تجاههم, ولكن الا تُلقي تلك العوامل بضلالها القاتمة على الواقع النفسيّ لشخصية الراغب بالهجرة غير الشرعية؟ فتجعله يرغب بأن يُصدق, ويجتهد بأن يقتنع, بأن الكثير ممن هاجروا قد نجحوا بالوصول الى برّ الامان, وافلحوا في أن تطأ اقدامهم ذلك التراب الاوروبي الواعد, وبأن من قضوا كانوا مجرد قلّة لا يُعتدّ بها ولا تصلح للقياس, فينطوي ذلك تحت اضطراب “الوهم النفسيّ” وتداعياته, مكوناً حلماً وردياً يتربع على ركائز الاعتقاد الثابت والخاطئ, حتى لو تهافت الاخرون بأدلتهم الدامغة, لأقناعه بان رحلته الموعودة ونتائجها المفترضة جاثمة على الاغلب فوق طبقات الزيف والخيال المبني على الخداع, ولكن دون نتيجة تُذكر!, والا يمكن اعتبار محاولة عبور المتوسط بتبسيطها النفسي محاولة منمّقة ومزركشة للانتحار!, يصنعها ويدفعها ذلك ” اللا شعور” الدفين والغائر في غياهب شخصية ذلك المهاجر الطموح, مفضّلاً تقبّل نتيجة الابحار بمحاذاة شبح الموت على البقاء بمحاذاة ذلك الوضع الراهن, مندفعاً لذلك الانسحاب المفاجئ ومرحباً بخطة وداعٍ لا يملك فيها سوى تلك الخطوة الاولى, حاملاً في جعبته شهادة ميلاد مختومة بالاضطراب واليأس, تتحول الى شهادة وفاة عنوانها الضياع والبؤس, ثم الا تُعنون خطوة الهجرة الغير شرعية لعائلة بأكملها, صغاراً وكباراً, بعنوان التهوّر المؤدي ربما الى مفهوم الانتحار الجمعيّ!, فإما ان نكون جميعاً او ان لا نكون جميعاً, واما ان يُفلح الجميع او يخسر الجميع, وفي النهاية ربما يعيش الجميع والأمرّ أن يموت الجميع!
ستبقى مسؤولية تلك الظاهرة المتكررة بحيثياتها الانسانية والاخلاقية مسؤولية مجتمعية ودولية على حد سواء, وستبقى تداعيات ذلك الحدث المتجدّد والمُفجع صفحة سوداء في كتاب الصراعات والقهر وفساد الدول, ومهما كانوا هؤلاء المهاجرين في هجرتهم, ناجين او غرقى, فرحين او ثكلى, أصحّاء او مرضى, سيبقون مجرد ضحايا تُكتب اوصافهم على صفحةِ بحرٍ يملأه النسيان!.