عالم الجائحة وما بعدها
شطحات “فكرية”
بوطاهر لطيفة
مع الافتراض الجدلي أن هذا العالم إنساني ،يتكهن البعض من المتفائلين أنه سيكون أكثر إنسانية وتعاونا وتضامنا، بعد هذه الجائحة التي أربكت و أخافت القوي المحصن بالعلم والمعرفة والغنى، أكثر من الضعيف المتأرجح بين الجهل والفقر والتبعية وساوت بينهم في وسائل المقاومة ولو مرحليا.
كغيري، قرأت الكثير من التحليلات و التوقعات الجيوسياسية لعالم ما بعد الكورونا التي تثير الفضول الفكري وتستدعي بعضا من الحس النقدي. وإذا كان سابقا لأوانه، رسم خريطة سياسية مستقبلية واضحة المعالم، لما يتطلبه الأمر من مسافة زمنية مع هّذه “الهزة الكونية “، فإننا نستطيع أن نلمس معطيات قد تساهم في بلورتها.
أرغم العالم على الاختفاء أمام انتشار و سطوة وخبث فيروس يتربص بالبشر في الغفلة واليقظة ورأيناه خبط عشواء من يصب قد يقتله ومن يخطئ يخلق له من الهلع توأما.
لم يجد في اكتساحه لكل البلدان من مقاومة غير الحجر الصحي. و جاءت صحيفة نيوزويك الأمريكية قي تقرير صادر في 19 من شهر مارس تحت عنوان “هل يمكن لقوة الصلاة وحدها وقف الجائحة؟ حتى النبي محمد كان له رأي آخر”، لتخبره وتذكره أن نبي الإسلام عليه السلام كان أول من أوصى به قبل 1400سنة في حالة انتشار الوباء.
اختبأت الشعوب خلف حدودها التي قال عنها أنصار العولمة إنها خانقة وقاتلة، وأقرت مسافات بين الناس اصطلح على تسميتها بالتباعد الاجتماعي. دخلت الأمم في تنافس بل حرب حسب بعض وسائل الإعلام، على الكمامات الصحية و وأجهزة التنفس ولقاحات قيد التجربة في مزاد شبه علني ومشهد سريالي استحضر فلسفة العقد الاجتماعي لهوبز: حب البقاء غريزة إنسانية والحالة الطبيعية أن الإنسان ذئب للإنسان.
شاهد كل العالم هجوم الجائحة على الصين وكيف تهكمت أمريكا بلسان رئيسها الذي وصفها بالفيروس الصيني، متيقنا أنها لن تطرق أبواب أمريكا العظمى. شاهدنا اكتساحها أوربا، وشهدنا على سقوط مدوي للنظام الصحي لإيطاليا، التي وقفت منفردة تواجه إعصارا قاتلا أمام أنظار اتحاد كانت من آبائه المؤسسين.
بكى الإيطاليون ومزقوا علم الاتحاد الأوروبي رافعين علمهم الوطني، منددين بخذلان أهل القربى والحلفاء . واكتشف أشد أنصاره قوة ،أن الحلف الأورو أمريكي قد سقط في مستنقع الكوفيد 19 وأن منطق الأمن القومي للعم سام هو القائد في ترتيب الأولويات.
وردد البعض، أن الرئيس المكسيكي اتصل متوسلا نظيره ترامب أن ينفذ وعده الانتخابي ببناء الجدار الفاصل بين البلدين متمنيا أن يكون أكثر علوا من المتوقع.
ولاشك أن كوريا الشمالية تحمد عزلتها وتهزأ من عالم المستهلكين حتى للأوبئة التي يجهل مصدرها وسيرتها الذاتية ولا يملك وسائل التصدي لها.
شكلت هّذه الجائحة «مفاجأة استراتيجية “، كما نعتها إرنيريو سيمناتور رئيس المعهد الأوروبي للعلاقات الدولية في مقال نشره بتاريخ 6 أبريل على الموقع الإلكتروني ستراتجيكا، فرصة استثنائية لعودة الخطاب الهوياتي الرافض للعولمة .
ظهر واضحا أن هناك توجهات قوية رافضة لتذويب الدولة القطرية ومدافعة عن السيادة الوطنية في صلتها بالحدود كمفهوم سياسي وقانوني ورمزي أيضا ، يعكس تقسيمات سياسية وما تعنيه من اشتراك في الأصل والتاريخ والمصير .
لم نشهد تنسيقا أوربيا واسع النطاق ومتعدد المقاربات، ولا بشعب أوربي يواجه جماعيا هذه الكارثة.
الغريب أن العولمة التي نظرت لها الرأسمالية العالمية وجعلتها وسيلتها الإيديولوجية و السياسية و الاقتصادية و أرفقها بمنظومة قيم لحقوق الإنسان، لتجاوز الحدود ودهسها ، هي التي أعادتها إلى الصدارة في النقاش السياسي و في التصورات الجيواستراجية القادمة.
هناك بداية وعي جماعي بضرورة تغيير العلاقة إلى المفاهيم السائدة والمسيطرة عالميا. حان أوان مسائلتها والانعتاق من ديكتا توريتها.
“إن الإنسانية لا تتطور بشكل ملحوظ إلا عندما تكون خائفة حقا”، إذا اتفقنا مع جاك أطالي في هذا الرأي ، انهالت تساؤلاتنا حول اتجاه التطور. فأنا أرفض فكرته حول الحكومة العالمية بمجمل صلاحياتها” كهدف سياسي أسمى لقيادة كل شعوب الأرض “وما ينتج عن ذلك من إلغاء فعلي للدولة الوطنية وتحويلها لأداة تسيير أعمال وتنظيم خلافات داخلية.،
أعتقد مع الكثيرين، أن هذه الجائحة الكونية الفتاكة تفرض رؤى جديدة لمسيرة العالم، تحسم مع نظام نيو ليبرالي سلعن الإنسان في أسواقه الاحتكارية ومؤسساته المالية، وتعيد للشعوب سلطتها. السلطة في التقرير السيادي للمصير السياسي ، وذلك ما يسمى ديموقراطية.
تفرض أسئلة حقيقية حول الحدود “كإحدى معالم الهوية الجماعية والمواطنة، وتسمح على المستوى الرمزي بالتمييز بين ما هو داخلي وما هو خارجي وهي عناصر مؤسسة لكل مجتمع إنساني أو بشري.”(1).
” عودة الحدود ليست كحاجز ولكن كحماية لسيادة الأوطان والشعوب. حدود مقبولة وليست نفيا أو رفضا للعالم”..(2).
” نشهد اليوم تراجع العولمة وعودة بعض الحماية، وهي ليست انطوائية أو خندقة وإنما رغبة في حماية الذات. إن عودة الحدود ظاهرة مثبتة ومؤكدة ولكنها لا تعني الانطواء على الذات.”(3) .
علينا أن نفكر جميعا،
“أين نضع المؤشر بين التضامن واللامسوؤلية ،بين الحرية والأمن. هذه صعوبات وأسئلة حقيقية يجب طرحها اليوم…..وبالتالي فإن الحدود هي موضوع سيا سي حقيقي بارز.”(4)
1-2-3- 4 ، محاضرة للجغرافي والديبلوماسي ميشل فوشي بعنوان ” عودة الحدود”، نشرتها الجريدة الألكترونية 2020.Les yeux du Monde
في 30 مارس 2020