د. أحمد جبر: أرض البرتقال الحزين لغسان كنفاني
د. أحمد جبر
رأي اليوم
إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين … لا أن نغير القضية، هذا ما نطق به لسان غسان كنفاني الأديب والمناضل والكاتب الفلسطيني الملتزم الذي قدم للقارئ العربي وغير العربي العديد من النتاجات الأدبية المتنوعة، فلم يقتصر أدبه على فن من الفنون الأدبية، وإنما كتب في سائر الفنون الأدبية النثرية فله حظ وافر في المسرحية والرواية والقصة القصيرة، وقد قصر أعماله الأدبية على القضية الفلسطينية، ومعاناة الشعب الفلسطيني، وما تحمله الفلسطينيون من عذاب وشقاء جراء الغربة واللجوء ، فالقضية الفلسطينية تمثل في عقيدته ومعادلته الطرف الثابت الذي لا يتغير ولا يستبدل، وهذا الطرف يحتاج إلى من يدافع عنه ويناضل من اجله حتى تتحقق الحرية لفلسطين وللشعب الفلسطيني، فالقضية والإنسان في حد ذاتهما هما جوهر القضية وأساسها وهذه القضية ينبغي أن تكون كمعادلة متوافرة الأطراف فهناك قضية وهناك من يتبنى القضية ويدافع عنها، وهذا ما أشار إليه غسان كنفاني في روايته عائد إلى حيفا.
غسان كنفاني يطل من نافذة الأدب على فلسطين وشعبها فمعاناة الأمس هي معاناة اليوم والقضية ما تزال هي القضية ذاتها، قضية احتلال فلسطين وإبعاد عدد كبير من الفلسطينيين إلى خارجها، لذلك؛ يسخّر غسان جل أدبه وفكره من اجل قضيته التي عاش فصولا حية من عذاباتها ودافع عنها حتى طالته يد الغدر، لكن غسان لا يزال بيننا يستنهض الهمم ويذكي العزائم من خلال ما قدمه من عروض أدبية استثنائية يندر مثيلها، وقد راحت تفرض ذاتها لتكون معجما نضاليا ملتزما يقدم النموذج النضالي على صعيد روائي وقصصي ومسرحي.
بعد عشر سنوات من اللجوء والتهجير الممنهج، وبالتحديد في سنة 1958م، أطل علينا الأديب الراحل غسان كنفاني من الكويت بحلة أدبية قصصية قصيرة مختزلة مكتنزة في آن، إنها قصة ( أرض البرتقال الحزين) التي روى فيها قصة اللجوء إلى لبنان، وقد عبر عن ذلك في مشاهد قصصية مترابطة بدأها بالخروج من يافا إلى عكا وكان خروجا معتادا، لكن الحدث القصصي يبدأ في ليلة الهجوم الكبير على عكا، وقد خرج اليهود متوعدين ومزبدين، وفي تلك اللحظة كانت سيارة شحن تقف على باب الدار، تُلقى فيها الأمتعة وقد ركبها أفراد الأسرة، وسارعت بالانطلاق مبتعدة شيئا فشيئا عن عكا التي بدأت معالمها بالاختفاء، بينما بقيت مشاهد بيارات البرتقال متوالية على الطريق إلى رأس الناقورة.
في الطريق فلاح يجلس القرفصاء يضع سلة برتقال اشترت منها بعض النسوة اللواتي علا بكاؤهن كما علا بكاء الأب كطفل حين تحدث على البرتقال ومقدار ما يكنه الفلسطيني له من الحب والتقدير، والبرتقال أصبح رمزا من رموز فلسطين به اقترن الفلاح الفلسطيني وبه اقترنت الأرض الفلسطينية حتى أصبحت الأم الرؤوم له وأصبح الفلاح أبا له يتعهده بالماء الذي اعتاد عليه وعيه نما وشب وترعرع حتى صار شجرا مثمرا ، لذلك كان المشهد الختامي في القصة يصور الدخول إلى غرفة الوالد المتمدد المرتجف غضبا والى جانبه المسدس الأسود على الطاولة وحبة البرتقال التي جفت ويبست.