“مَرْتِيل” ذاكرة ميناء ولمسات في أدب الجوار.. لا لتدمير ذاكرة الشعوب
عبد الحميد البجوقي
رأي اليوم
“العقيد لويس دي كاستييخوس، رجل له تاريخ عسكري مجيد يتساءل؟ إذا كان هدفنا تطوان، كان علينا الإنزال بالأراضي الافريقية بمصب وادي “مرْتِين”، الرجل يعرف الساحل المغربي شبرا شبرا، زار مرارا الساحل الافريقي، وسبق له أن استقر في بعض مدنه وقُراه ويعرف كذلك قبيلة أنجرة، ويؤكد أن أحسن مكان للإنزال البري لتطويق الأنجريين والوصول بسرعة إلى تطوان هو مصب وادي مرتين”.مقتطف من رواية “عيطة تطاون” للروائي والأديب الاسباني بينيتو بيريث غالدوز Benito Pérez Galdós عن حرب تطوان سنة1860(ص 50).
تحكي الرواية عن تفاصيل الحياة في اسبانيا بداية بمدريد في أواخر القرن 19، وفي شمال المغرب، وبالخصوص مدينة تطوان ونواحيها من الفنيدق أو كاستييخوس إلى “مرْتِين” مرورا بالمضيق أو الرينكون، وعن الجيش الاىسباني الذي دخل المدينة بقيادة الجنرال أودونيل Odonel، وعن تفاصيل حياة المغاربة بالمدينة المغربية العتيقة ، وعن يهود تطوان في حي الملاح. كما تنقل الرواية حوارات جميلة وعميقة عن علاقة القرابة والشبَه بين الموروس( المغاربة) والاسبان، وعن الاسلام والمسيحية، وعن عادات سكان المدينة العتيقة من أصول أندلسية وموريسكية.
الذي يهم في هذه المناسبة، هو الحضور القوي لموقع “مرْتِين” والبرج التاريخي المُطل على مصب واديها ، ودوره في حماية الأمن الاستراتيجي للمغرب. تكرّر حضورهذا الموقع في رواية بيريث غالدوس إلى غاية الفصل ما قبل الأخير، وحضرت “مرْتين” كموقع استراتيجي وعسكري لا يستهان به. نجد هذه المدينة المتوسطية وواديها حاضرين بقوة في حوارات أبطال الرواية من القادة العسكريين وبعض أعيان تطاون من أصول موريسكية كشخصية سي ناصيري.
كان سهل “مرتين” ومصب واديها محط اهتمام القيادة العسكرية للجيش الاسباني آنذاك. تشرح الرواية بأدق التفاصيل كيف اعتمد الجنرال أودونيل خطة هجومية تهدف قطع الطريق على أي مناورة تستفيد من الوادي الذي يمر بجوار المدينة المحاصرة، أو من سهل “مرْتِين” الممتد على ساحل طويل يسمح بوصول الامدادات والتحاق قبائل مُحارِبة تلبية لدعوة الجهاد التي أطلقها الأمير مولاي العباس. كان الجنرال أودُونِيل كما رسمته رواية بيريث غالدوث، عسكريا مُحنّكا وخبيرا في الحروب النظامية ويعرف الأهمية الاستراتيجية لوادي مرْتِين وأهمية السيطرة عليه لاحراز النصر على قبائل مقاتلة ومُتمرِّسة في القتال.
“مرْتِين” وواديها كانت عبر التاريخ حاسمة، واستراتيجية في تاريخ المغرب، كانت منفذا حيويا على المتوسط، وموقعا جهاديا يقضُّ مضاجع الأوروبيين، كانت بسهلها الغني عصبا لاقتصاد المملكة وعمودها الفقري في تحقيق الأمن الغدائي، كما كان مصب واديها الشهير نقطة وصل في حركة التبادل التجاري ونقل البضائع على امتداد المتوسط، وبرزت حينها صناعات موازية ازدهرت ووصل صيتها إلى موانئ عالمية كميناء البندقية Venecia بايطاليا وميناء برْسِلو Barceló الشهير بجزيرة مايوركا الاسبانية وغيرها.
بعد خضوع المغرب لنظام الحماية كان ميناء “مرتين” ينافس موانئ كبرى على امتداد الساحل المتوسطي، وكان يُعدُّ أكبر ميناء متوسطي بعد ميناء برْسِلو بجزيرة مايوركا الاسبانية، وتذكُر مصادر برتغالية أنه كان يسع لألف مركب راسية، وبجواره برج حراسة تاريخي تتضارب المصادر عن الجهة التي شيدتْهُ، بعضها يقول أن بناءه الأول كان برتغاليا على يد الملك البرتغالي مانويل الأول سنة 1520، وأخرى إلى القائد احمد بن الباشا الريفي سنة 1719 بأمر من المولى اسماعيل، وتتفق أغلب المصادر على إعادة بنائه من طرف السلطان محمد بن عبدالله سنة 1759 بعد أن دمرته قوارب عسكرية فرنسية .
باسم “مرتين” وليس “مرتيل” حضر هذا الموقع الاستراتيجي من جغرافية المغرب في الرواية الاسبانية التي اختارت شمال المغرب مسرحا لأحداثها أو لبعض فصولها منذ ميغيل دي صرفانطس في القرن السادس عشر في روايته الشهيرة “دون كيشوط دي لامانشا ” إلى أواخر القرن التاسع عشر مع بيريث غالدوس في روايته السابقة الذكر، وخوصي كارلوس ماينر José Carlos Mainer في كتابه “لمسات مغربية في الأدب الاسباني”، ونجدها عند الوائي رامون ساندر Ramón Sandersفي روايته “المعشوق” الصادرة مع بداية القرن العشرين عن حرب الريف وهزيمة الاسبان في معركة انوال، كما نجدها و مصب واديها الشهير عند أرتورو باريا Arturo Barrea في روايته ” بوتقة متمرد” La forja de un rebelde الصادرة سنة 1941 ،والتي تحكي مشاهد مُرعبة من الحروب التي خاضها الاسبان للسيطرة على شمال المغرب منذ بداية القرن العشرين بعد توقيع اتفاقية الجزيرة الخضراء سنة 1906 حتى نهاية الثورة الريفية سنة 1926.
في عهد الحماية ازدهرت هذه القرية الساحلية في حينها وازدهر ميناءها الذي أصبح أول ميناء في إفريقيا يرتبط بخط السكك الحديدية، وأصبح يضم مصنعا ضخما للحيتان Ballenera، وعرف رواجا تجاريا يضاهي الموانئ الكبرى في المتوسط.
تحولت “مرْتِين” في حينها إلى مدينة اقتصادية ترتبط عبر مينائها بالعالم، وعرفت نموا سكانيا تميز بالتنوع والاختلاف الديني والعرقي واللغوي، ورغم أن الأغلبية كانت من المسلمين، إلا أن القرية كانت مستقرا لكشكول من الجنسيات والديانات والأعراق، إسبان وهنود، وأقلية من الايطاليين والألمان والفرنسيين، وجالية من الغجر كانت تشتغل في الحدادة.(أرشيف الحماية الاسبانية في المغرب ـ المكتبة الوطنية الاسبانية ـ الحماية الاسبانية في المغرب 1912 ـ 1956)
عن هذه الصور من تاريخ مرتين، وعن حضورها في الادب والرواية الاسبانية، عن بُرجها التاريخي ومصب واديها الذي كان ممرا للحضارات والثقافات ، كما كان معبرا للجيوش وموقعا استراتيجيا للحروب. عن علاقتها التاريخية بالمغرب وبالمتوسط، وبالعالم، عن هذه الذاكرة المشتركة يدافع مجموعة من الأوفياء بدون كلل، بشراسة وعزيمة لاستعادة ملامح هذا التاريخ الانساني البشري الكوني الرائد في مد جسور العلاقة والحوار بين الشعوب.