د. محمّد محمّد خطّابي: أحداث مايو 1968 الفرنسية.. إنتفاضة غيّرت حياة الأجيال
د. محمّد محمّد خطّابي
أخبار ثورة أو انتفاضة مايو(أيار) الطلاّبية الفرنسية 1968، التي عشنا وأحيينا ذكراها الخمسين خلال الشهر الفارط ، وصلتني وأنا ما زلتُ أتابع دراستي العليا في القاهرة ، كان لهذه الأحداث تأثير فوري وبليغ على الطلبة ،والمثقفين على اختلاف مشاربهم، واتجاهاتهم ،وانتماءاتهم الحزبية والسياسية، والمذهبيّة، تتبّعنا أخبارها عن كثب بواسطة وسائل الإعلام العربية على وجه العموم ،والمصرية على وجه الخصوص المسموعة والمرئية منها، وما كان يكتبه آنذاك عنها في مصر كتّاب من قبيل محمود أمين العالم ، وموسى صبري، ومحمّد حسنين هيكل، وأنيس منصور،ولويس عوض وآخرون.
ذكريات وانطباعات
وعلى الصّعيد الجامعي عمد اتحاد طلاّب جامعة عين شمس بشكلٍ خاص إلى تنظيم وقفات حاشدة في ساحات وباحات هذه الجامعة الفسيحة تضامناً مع الطلبة الفرنسيين الذين فجّروا هذه الانتفاضة ،ودعماً لمطالبهم المشروعة والعادلة ، إلاّ أنّ هذه التجمّعات سرعان ما انفضت وخبَا أوارُها بعد تدخّل المسؤولين الجامعيّين مخافة أن يتحوّل مسارُها لمطالب وغايات أخرى فنحن كنّا لمّا نزلْ في عهد الرئيس المصري ذي الكاريزما الخاصّة، الطيّب الذكر جمال عبد الناصر، كما أذكر أنّ اتحاد الطلبة المغاربة بالقاهرة نظّم بمقرّه الكائن بشارع بنك مصر رقم 6 تظاهرة طلابية كبرى شاركتُ فيها إلى جانب ثلة من الطلبة المغاربة الأصدقاء، والأعضاء في هذا الاتحاد، ،فضلاً عن بعض الضيوف من الأشقّاء من الجزائر، وتونس، وفلسطين ، ولبنان،والأردن،ومن بلدان عربية أخرى، حيث التقينا -غداة هذه الانتفاضة- في عدّة مناسبات، كما زارنا غير ما مرّة خلال هذه الفترة في مقرّ الاتحاد الشاعر والمناضل الفلسطيني الرّاحل معين بسيسو(أتذكّر أنه كان يدخّن بشراهة) ، كان الجميع يشعر بنوع من الإحباط والتذمّر ممّا سبّبته لنا نكسة 6 يونيو 1967،وقد شكّلت هذه الانتفاضة الفرنسية الشبابيّة – على الرّغم من شحط المزار، والبُعد عن الديار- شكّلت لنا فسحة أملٍ، وكانت ضرباً من الانفراج،وضخّ الحياة في قلوبنا المكلومة،وأفئدتنا المهمومة، ونفسياتنا الحائرة المنهارة، إنها انتفاضة أو بالأحرى،وبمعنى أدقّ ثورة غيّرت حياة كلّ الأجيال ليس في بلاد الغال وما جاورها وحسب، بل على ما يظهر في مختلف مناطق، ومناحي ونواحي، وأصقاع المعمور .
من طفرة طلاّبيّة إلى إضراب شامل
كان لهذه الانتفاضة تأثير بليغ على معظم الكتّاب والمثقفين المغاربة وغير المغاربة سواء كانوا داخل بلدانهم أو خارجها، كما كان لها تأثير واضح – كما هو معروف- على العديد من الكتّاب، والمفكرين التقدّميين على وجه الخصوص في مختلف أنحاء العالم ، وفيما يتعلق بتجربتي الخاصّة فقد صادف أن زرتُ باريس قادماً إليها من القاهرة 1968 بُعيد الانتفاضة مباشرة، وكتبتُ مراسلات لجريدة ” الطلاّب” التي كانت تصدر على الصعيد الجامعي بمصر، حيث كنتُ أشرف على القسم الأدبي بها، كما نشرتُ بعض المقالات، والقصص القصيرة من وحي هذه الانتفاضة، ومن وحي قضية فلسطين التي كانت تستأثر باهتمامنا، ومتغلغلة في أعماق وجداننا وكياننا في جريدتيْ “العَلَم” و”المُحرّر” المغربيتين ( هذه الصّحيفة الأخيرة أصبحت اليوم تحمل اسم الاتحاد الاشتراكي). كانت الشرارة الأولى لهذا الغليان الثوري طلاّبية بحتة، انطلقت في الثالث من شهر مايو من جامعة نانتير بضواحي باريس، ثم سرعان ما عمّت السّوربون وكليّاتها، وتحوّلت في غضون أيام معدودات من طفرة تلقائية حاسمة ( في اليوم الثالث عشر من مايو) إلى إضراب طلاّبي وعمّالي شامل شلّ الحياة اليومية في باريس، وفى يوم (السابع عشر من مايو) بدا الجنرال شارل دوغول(أوّل رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة) حائراً،مرتبكاً، متردّداً بين الرّضوخ أو التصدّي لهذه الانتفاضة ، وفى آخر المطاف أرغِم على حلّ الجمعية الوطنية، وإجراء انتخابات تشريعية. مرّ اليوم على هذه الانتفاضة خمسون حوْلاً بعد أن انبثقت عفوية من زخم الشباب ،وصَخَبِه، ودَأبِه،وهديره، ولجَبِه ، وتلقائيتِه ، انطلقت ليس بهدف تغييرالأوضاع الاجتماعية ، والعمّالية ،والسياسية ،والاقتصادية في فرنسا وحسب، بل وفى العالم ،على ما كان يبدو لنا في ذلك الإبّان .
الانتفاضة وكبار المثقفين
استقطبت هذه الثورة مختلف الحركات والتيارات، وساندها مثقفون،ومفكّرون، من العيار الثقيل حيث انضم إليها أكبرالكتّاب، والفلاسفة، والشعراء،والفنانين الذين كانوا يحظوْن بصيْتٍ واسع إبانئذٍ في فرنسا ،وأوربا، وفى العالم أجمع ،أمثال الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر،ورفيقته سيمون دي بوفوار، وبول ريكور، وميشيل فوكو، و جيل دولوز، و ألان باديو، و ناتالي ساروت، و مارغاريت دُورَاس، وبوتور، ولوفيفر، وفرانسوا مُورياك، و أندريه مالرُو وسواهم، كلهم شكّلوا جداراً حصيناً ضدّ السلطة المطلقة، وضدّ كلّ النماذج المذهبيّة التي كانت سائدة فى ذلك الأوان، هذا المدّ الهائل من التظاهرات، والاحتجاجات أحدث تغييراً جذرياً عميقاً بين ( ما كان وما سيكون ) فى الحياة الفرنسية حول مختلف المفاهيم السياسية، والحزبية ،والنقابية التي كانت مُهيمنة في ذلك الوقت التي لم تعمل قط على تقريب الهوّة التي أمست سحيقة وعميقة بين الأسياد (الرأسمالييّن) وبين طبقات البروليتاريا الكادحة، العَسيفة، المُستلبَة، والمُستغَلّة أسوأ استغلال فى منظور هؤلاء.
قطب الرّحى في هذا التغيير
الفيلسوف الألماني “هربرت ماركوز” كان قد تعرّض في كتابه “الإنسان ذو البُعد الواحد” إلى الفئات الجديدة التي ستشكّل قطب الرّحى في هذا التغيير ضدّ الرأسمالية، وما أفضت إليه المجتمعات الصناعية من استلاب وإذعان للإنسان تحت وطأة الأنظمة المطلقة السائدة رأسمالية كانت أم شيوعية آنذاك ،كان لأفكارهذا الفيلسوف تأثير بليغ على الحركات الطلابية في أمريكا وأروبا وفى فرنسا بشكلٍ خاص. فضلاً عن تأثيره فى الفنون، والسّينما، والشّعر، والإبداع ، والرّسم ،والتصويرالفوتوغرافي التوثيقي، والجداريّات، وسواها من مجالات الخلْق، والإبداع، من بين الدّواعي التي حدت بالطلبة الفرنسيّين، ومَنْ معهم من الأجانب الذين ساندوهم للانتفاض، والانقضاض على المفاهيم السائدة إبّانئذٍ الحرب الجائرة التي كانت تدور رحاها في فيتنام بعد أن شنّتها أمريكا ظلماً، وعدواناً ،وإجحافاً عليها ، بينما كان هوشي مينه، وماو تسي تونغ، يتغنيان بالثورة الثقافية التي وصلت أصداؤها إلى فرنسا، والتي كانت تأخذ بألباب الطلبة،وتدغدغ عواطفهم، وتشحذ هِمَمَهم ضدّ الاتحاد السوفييتي وأمريكا على حدٍّ سواء، فضلاً عن اغتيال إيرنيستو تشي غيفارا (1967)،ومارتن لوثر كينغ (1968) ، باتريس لومومبا، وسواهم من رموز التحرّر، وأرباب الفكر المستنير فى مختلف أرجاء المعمور بما فيه العالم العربي، وسرعان ما انضمّ إلى انتفاضة الطلبة الباريسيّين إتحادات العمّال الذين شاركوا بحماس فى إضرابٍ عامٍ في الثالث عشر من مايو، وقفز عدد المُضربين تدريجيّاً من مئتيْ ألف إلى نحو المليون شخص، ثم تجاوزعددُهم مليونيْ عامل، وما لبث أن وصل إلى عدّة ملايين . هذه الانتفاضة الطلابية الفرنسية تفجّرت غداة تلاقح اليسار التقدمي العالمي مع الحركات المناهضة للقوى الإمبريالية ، وبالرّغم من انتقال الاحتجاجات الطلابية من الشوارع ،ومن باحات الجامعات إلى رحاب المعامل، والمصانع، وتميّزها فيما بعد بمواجهاتها لقوى الأمن إلاّ أنها لم تخلف أيّ قتلى في صفوف الطلاب سوى حالة واحدة أو حالتين.
“اعزفها ثانيةً يا سام ” !
والخلاصة لقد شكّلت هذه الانتفاضة أهمّ تحرّكٍ اجتماعيٍّ شامل في تاريخ فرنسا في القرن العشرين ،ولا يتّسع المجال لسرد الكتب التي حاولت وتحاول تقديم قراءات أعمق،ومفاهيم أدقّ، ودراسات أشمل لتلك الأحداث التي كانت فى البداية ذات طابع اجتماعي، وثقافي، وأخيراً سياسي لتصبح فيما بعد بمثابة متاريس منيعة،ومُزعجة فى طريق الرأسمالية، والأمبريالية الأمريكية لتقويضهما، كما شكلت هذه الثورة سبقاً تاريخياً فريداً،ونصبت صُوَّاتٍ، وقطائعَ فاصلة حيال الثقافة السّائدة ومختلف أنماط العيش والتعايش التي كانت تطبع المجتمع الفرنسي في مجمل مؤسّساته التقليدية آنذاك،وعلى غرار العبارات التي ظلت راسخة في أذهان مَنْ شاهد فيلم ( كازابلانكا) الشّهيرمن قبيل : “ودائما تبقى لنا باريس″، أو “اعزفها ثانيةً يا سام ” ! فقد أمست بعض شعارات هذه الثورة أمثلة مشهورة، وأقوالاً سائرة مأثورة ما فتئت تردّدها الألسن إلى اليوم من قبيل (كونوا واقعييّن، أطلبوا المستحيل)، أو (المنع محظور) ! ،وهناك من المثقفين والمفكرين مَنْ يحلو له اليوم المقارنة بين أحداث مايو فرنسا 1968 ، وبين أحداث الرّبيع العربي 2011 التي شهدت هي الأخرى هزّاتٍ، ورجّاتٍ،وضخّاتٍ عنيفة ، صاخبة ما زلنا نسمع أصداءَها،وهديرَها ،وردودَ فعلها إلى اليوم .
*كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا .
رأي اليوم