انت هنا : الرئيسية » الواجهة » رواية “قاع البلد” وعذابات التهجير

رواية “قاع البلد” وعذابات التهجير

البصرة ـ توفيق الشيخ حسين:رأي اليوم

نكبة عام 1948 التي حلت بالشعب الفلسطيني كانت كارثة فادحة، وكان من نتائجها اغتصاب الأرض وتشريد الأهل عن أوطانهم ولجوؤهم الى الخيام ومعسكرات التشريد داخل الوطن وخارجه.

وفي عام 1967 حلت نكسة حزيران وفيها استكمل العدو الصهيوني احتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة ومعظمهم نزحوا الى شرق الأردن، مما أدى الى خلق مأساة انسانية متكاملة للشعب الفلسطيني، وذلك بتشريده من أرضه .

  جديدة ومتنوعة في التفاعل مع الواقع والمتغيرات، وزلزال الهزيمة هذا لاقى أجوبة في مجال الأدب والفن، فالكاتب الفلسطيني شاعرا ً أو روائيا ً أو قاصا ً بدأ يعيش مرحلة مفصلية في تقويم ابداعه وامتلاكه لأدواته .

تأخذنا رواية ” قاع البلد ” للروائي صبحي فحماوي الى أحداث النكسة الفلسطينية عام 1967 ،وقد ظهرت نتائج ذلك الجرح وعمق المأساة  ومدى الظلم والاضطهاد على المواطن الفلسطيني .

غلاف الرواية يمثل ثوب الجمال معانقا روح الثقافة، فالغلاف هو الصورة الأولى التي يراها قارئ الكتاب. فالعنوان ليس عملا ً اعتباطيا ً بقدر ما هو تجسيد لقصديـّة الروائي، وقد يكون الاسم يحوي دلالة أو رمزا ًكما يؤكد “د. فاروق مواسي ” :

” أنه يقدم اشعاعا ً أوليا ً للتأمل، ويفتح أفاقا ً للحوار. ولا ندري بعد هذا كله كم يصبح القول ـ يقرأ الكتاب من عنوانه ـ”

غلاف رواية ” قاع البلد ” تمثل بلوحة تشكيلية ترمز للأصالة والتاريخ، وهي عنوان الفن الهندسي والمعماري للآباء والأجداد ، وقد أهدى صبحي فحماوي الرواية الى ” أولئك الذين توالت عليهم النكبات فتاهوا في الصحراء مائة عام ” .

الزمن يحدد طبيعة الرواية وشكلها، فالزمن هو أساس مهم تُبنى عليه الرواية ، والسرّد له علاقة وثيقة بالزمن ومنه يستمد أسباب وجوده وأهميته .

الروائي صبحي فحماوي جعل شخصيات الرواية ” الهربيد عوض ، وطالب الطب سامي الناظر الأزهري ، وأبو جعفر الحداد ، والحاج نايف الجبالي ، والشيخ محسن لهلوب ، والعجوز أبو غليون ، والخردواتي أبو سحبان  ” تتصرف من تلقاء نفسها، وتفكر مستقلة، من خلال سلوكها وأفكارها، فكل شخصية تقابلها تتماثل وتتقاطع مع الذاكرة في رحلة البحث عن الذات وعن لقمة العيش .

لقد رسم فحماوي المكان في روايته ” قاع البلد ” بعفوية مقصودة تعبر عن ظاهرة نفسية وعقلانية تعيش في وعي الانسان الفلسطيني وما لها من تأثيرات الاستلاب، والغربة، والتشرد، على الظاهرة المجتمعية .

محتويات الرواية هي تلك الحكايات التي بلغت عشر ليالٍ ، وكلها حكايات تتماوج حول المكان ” مصنع الألبان في بيت لحم ، مستشفى الطلياني ، سوق الباله ، مقهى السنترال ، سينما زهران ، دكان الجبالي ، سوق الخضار ، شارع الطلياني ” .

يرسم لنا الروائي صبحي فحماوي فسيفساء الحدث الروائي بريشة الأفعال والأقوال، التي باتت مركزة في بؤرة المكان .

تكتشف شخصية “الهربيد عوض” عوالم جديدة تحملنا معه في رحلة مماثلة عبر أروقة ” فندق الوادي” وسط عمـّان وهو فندق شعبي يبتلع بداخله الغرباء ممن ليس له بيت يأويه، أو من ليس له أهل يرجع اليهم في الليلة المعفـّرة بغبار المهـُجرّين، من البقية الباقية من فلسطين، والتي تدور حوله معظم أحداث الرواية بعد مطاردته لعنة عذاب البعد عن الوطن والتوهان في الغربة.

كان أصعب موقف في الرواية مشاهدة ” الهربيد ” لأبيه راعي الأغنام وهو يغرق في أحد القيعان المائية في الصحراء أمام ناظريه رويدا ً رويدا ،ً بدون قدرته على إنقاذه، إذ حاول ذلك بشتى السبل ، إلا أن الأب أختفى أمام ناظرّيه، واختفت الدنيا من أمامه، فلم يعد ّ يصدق ولا يحس بحقيقة ما يرى ، وراح يسير في أي اتجاه، غير عارف الى أين هو متجه .

” يبدو أن غنمة وحيدة قد تورطت بالغوص في أعماق الماء، فدخل البركة ليخرجها، فغاصت رجلاه في الطين ” .

اللعنة تلاحقه حتى في هذه الصحراء المترامية الأطراف، اللعنة تحاصره منذ أن تم خلعه من البوادي الخضراء ، يوم هُجِّر ّ من ربوعها الرطبة، وطردوه من تلك البلاد الخضراء، وقذفوه الى القفار الشاحبة .

يقول الدكتور أحمد ياسين العرود :”

” لقد جسدت شخصية ” الهربيد ” حالة من التاريخ العربي الفلسطيني بكل أبعاده، وأهمها؛ التهجير والمقاومة، فالهربيد هو ذلك الفلسطيني الذي عاش حياته في فلسطين وحل به ما حل من الاحتلال الصهيوني، وانتقل الى مدن عربية ومنها عمـّان ” .

يسرد ” الهربيد ” بشكله المدهش ذي الطول الفارع ، والشعر الطويل الغزير ، وتخرجه من المدرسة الثانوية عام 1955، حكاياته في تلك الليالي العشر التي كان مضطرا فيها لجيرته في تلك الغرفة الفندقية؛ الزنزانة، التي قضاها في” فندق الوادي ” مع طالب جامعي سنة ثانية طب، في جامعة الأزهر، اضطر للمبيت في هذا الفندق، لحين وصول مصروفه الجامعي من والده في فلسطين، حيث أنه يقف خلف الحدود، ممنوعا ً من دخول وطنه، بعد احتلال فلسطين بكاملها، نجده يتحدث وهو يتوجع ، ومعالم وجهه تتطوى وتشتد ، وأصابع يديه تتمخلب مثل أدوات عقرب، وعيناه تتوهان في البهوت المريع،  فيكشف بثرثرته المتواصلة عن عذابات سريرته، ووصوله تائها ً الى ” قاع المدينة” المضيافة الحنونة، والتي في الوقت نفسه، لا تعرف أحد، وكأنها بقلب قـًدّ من حجر ، إذ احتوته بدفئها الشرس ، من بيت لحم والتي عاش فيها أيامه السعيدة،  حيث كان يعمل في مصنع الألبان ” ألبان يافا ” عند أبو جعفر الحداد ، حيث يشتري من أصحاب مراعي أغنام البدو المنتشرة في منطقة بيت لحم ـ بيت ساحور ـ زعترة ـ منتجات الأغنام من الحليب واللبن والجبن والزبدة والسمن وحتى صوف الأغنام ووبر الماعز الذي يصنعون منه خيام البدو.. كانت حياته طبيعية، وحصوله على دخل جيد لمعيشته، ولكن بعد خراب حزيران، تغيرت حياته الى الفقر والتشرد هو وأهله، بعد نزوحهم القسري الى مدينة قريبة من عمان، وذلك بعد التهجير الذي ألم به عام 1967 ، وعمله في العتالة، تجده سائراً في طرقات السوق المتعرجة بضيقها وازدحامها، فيرتطم بين أكوام الخس والملوخية والباذنجان والخيار. إذ يقول لرفيقه في الفندق:

” فصرت عتالا ً بدون رخصة ، وبكل جرأة رحت أعرض على هذا وذاك أن أحمل له بضاعته ، مستعدا ً لايصالها الى بيته ” .

تحدث الروائي صبحي فحماوي عن روايته فقال :

” أنه حمل شخصية ” الهربيد ” هذه عشرات السنوات في ذاكرته ، شخصية رجل كان مدحورا ً، ثرثارا ً مثل قطار قديم، ينفث بخاره فيلفت نظر الجميع ، ويجمعهم للتفاعل مع آلامه وعذاباته بعد التهجير القسري الذي ألم به وبأهله عام 1967 ” .

إنه لا يفهم كيف وصل الى الدرك الأسفل من الحياة ، وهو ابن ثقافة بيت لحم العريقة منذ عهد الكنعانيين الممتد منذ الأزل .. كان شغوفا ً بالقراءة التي حرم منها بعد شهادة الثانوية .

ولكن الهربيد لم يستمر في عمل العتالة طويلا حتى تحول للعمل في بيع ملابس البالة والذي دلـّه عليها العجوز أبو غليون، فعمل عند أبو نجيب الجبالي صاحب أشهر محلات تجارة بالة في شارع الطلياني، الذي وافق أن يعطيه بالة ليبيعها على الرصيف، وينقده ثمنها لاحقاً، عند تسلـّم البالة الثانية. كان الناس من شدة الفاقة والفقر يسترون عريهم بملابس البالة، وخاصة لمن لديه عائلة (حطماء) وأسرة تأكل الحجارة .

كان الهربيد ينقلب في كل ليلة ليكون حكواتيا ً متقلب المزاج ، يخلط الفرح مع الألم ، والسعادة مع الشقاء ، فهو لا يشعر بالاستقرار، ويعيش في قلق دائم ، القلق يتابعه كظل ، يشعر بأن هذا المكان ليس له، والذي كان من المفروض أن يكون معلما ً للناس، الأخلاق ، والكرامة ، والوطنية ، والفكر ، والحساب.

في نهاية الليالي العشر وصل “أبو جواد” العم الأصغر للطالب الأزهري من الخليل، حاملا ً معه المصروف السنوي لدراسته في الجامعة، ليسافر الى القاهرة بعد أن ودع أطلال الهربيد وعـز ّ عليه فراق فارسها .

يتناول الروائي صبحي فحماوي في روايته ” قاع البلد ” البعد النفسي للشخصية، ليتحول من حالة الفوضى النفسية، واللّاهدف، الى حالة الفعل الذاتي، وتحقيق الأهداف. والذي يجعل الشخص المحبط والمهزوم ينهض مستبشرا ً .

بعد الانتصار في “معركة الكرامة” مع العدو الصهيوني في الأغوار الوسطى، أخذت الأفكار تدور في رأس الهربيد للأنضمام الى أحد الفصائل الفلسطينية، للعودة الى أرضه المحتلة في عملية مقاومة مدروسة .

وبالفعل كان الهربيد أحد الأبطال الثلاثة من مجموعة فدائية استطاعت أن تخترق الحدود الأردنية الفلسطينية، وأن تحتل حافلة ركاب تابعة لشركة ” إيجد ” الإسرائيلية في مدينة العفولة والمتجهة الى الناصرة ، فمدينة حيفا ، مطلقين على العملية ” برتقال يافا ” .

وبعد سنوات سبع من اعتقال الهربيد من قبل الاحتلال الإسرائيلي، تم الإفراج عنه ضمن عملية تبادل أسرى، بشرط بقائه في قطاع غزة ومنعه من العودة الى دياره وأهله في بيت لحم.

يبقى الألم والوجع هو حكاية الفلسطيني، حكاية الاحتلال الإسرائيلي وجبروته،  والتشريد، والقهر،  والظلم والتآمر على الشعب الفلسطيني ، حكاية فراق الوطن، وما عاناه شعب فلسطين من عذابات، فكيف يريدون من الفلسطيني أن يكون شخصا ً عاديا ،ً وهو يعيش الحياة على حافة الموت، وهو يواجه كل العذابات المتخيلة وغير المتخيلة، في واقع لا يمكن وصفه بدقة ، سوى أنه كارثة متواصلة طيلة الحياة.

* صبحي فحماوي/ رواية قاع البلد / مكتبة كل شيئ / حيفا /2017

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى