محمد يونس: كبسولة الدواء الأدبي
محمد يونس
رأي اليوم
حين انهممت بدراسة هذا الجنس الادبي المثير كتابة وتلقيا ايضا، كنت مدركا اهمية في علاقة الجنس التاريخ البشري، وليس فقط كون القصة القصيرة جدا مثيرة للجدل وللأنبهار والدهشة والسخرية وما يتمثل بها من مقومات اخرى، ومنها ” القفلة” التي تغير تفكيرنا المتتبع مسار القص نحو النتيجة وتبقينا مبهوتين وتسلبنا ارادتنا اذا جاز التعبير، وهناك تأثير قوي وسريع، منه من يلمس في تلقي المادة الأدبية، واخر اخفته ما هي قصص قصيرة جدا اتخذت لها اشكال اخرى، مثل الحكم والألغاز، ووجدت لهرمس الحكيم اكثر من قصة قصيرة جدا سردت بشكل يتناسب مع موقفه الفلسفي، وهناك في التراث العربي قصص اشعب وغيرها، وكون هذا النص الاستشفائي هو ( كبسولة ) كما يرى النقاد الانكليز، الذين هم اول من اختص بدراسة هذا الجنس، اذن هي كما الدواء الشافي سيان ظنا او واقعا، وتلك ميزة لايملك جنس ادبي ذات التأثير، هذا الجانب مؤكد يجعل الفلاسفة يهتمون بها، وفعلا في البحث بثنايا التاريخ وجدت فعلا يوجد اهتمام فلسفي به، ومن يقرا للحكيم هرمس قصص يجدها تؤكد اطار البناء التقني للقصة القصيرة جدا، وهي كانت كبسولات اتخذت شكل الحكمة، وهناك ايضا كبسولات تشبه الأفكار الملغزة التي يطرحها الفلاسفة، اوما التراث العربي فهناك اشكال عدة للكبسولة، كل منها قد اتخذ شكلا ملائما لمغزاه، ولايهم أن كانت تشفي اسقام ام هي سم قاتل، ففي التراث العربي توافرت اشكال عدة للقصة القصيرة جدا، فمثلا اتخذت القصة القصيرة عند ” اشهب ” نمطا ساخرا وعبارة عن مشاهد كوميدية مسرودة تنتهي بمكر، وأن كانت مجمل قصص اشعب التي سميت ( نوادر) هي سرد شفاهي، أي هي محكيات، تقترب مما يروى في عالم الحكواتي الذي عرف في ازمنة تالية، ول ندرس الكبسولة عند اشعب عبر البعد النفسي للادب، لوجدنا فيها وجهين، كل منهما له ملامحه، فوجه الكوميديا هو مايرسمه سرد السعي الى النتيجة، ووجه التراجيديا ترسمه القفلة المفاجأة، والتي تقلب تفاصيل الحدث راس على عقب، وينقطع خيط التواصل، وهنا تكون الضربة، والتي هي كما القشة التي قصمت ظهر البعير .
حوت في اعتقادي المنظومة السردية الكبرى( الف ليلة وليلة ) كبسولات مرتب بسرعة ، كون تفاصيل احداث تلك المنظومة سريعة وفيها مشاهد هي ذات مشاهد ( الأكشن)في السينما، وهذا كان من جهة ايقاع السرد، والتي هي تتطلب ايقاعا اسرع من المعتاد، ومن جهة اخرى أن نمط كبسولة القصة القصيرة جدا كان هو ثيمة ( افلام كارتون )، وذلك لأنه يخالف المعتاد، وهذا ما جعل قصص الف ليلة وليلة مادة وافرة الشرط في مجال ما يعرف بافلام الدمى، وهناك اكثر مادة استخدمت تقنية القصة القصيرة جدا، ولولا التعبير الفني المختلف،لكانت تلك المواد مجرد حكايات تقليدية تكررت مرارا دون أي اثارة ، وطبيعي يقابل التلقي البصري تلك الحكايات كما جريدة الاسبوع الماضي، وهذا يؤكد تميز ذلك الجنس الأدبي عن قرينيه، فالرواية الواسعة والمتوالية التفاصيل، هي في توصيف موضوعي،تلك البداية التي يسعى بها السرد لتحقيق النتيجة، ولكن الرواية تنتهي بشكل طبيعي ومالوف، لكن الكبسولة تنتهي بشفاء سقيم، وهذا ما جعل همنغواي يفتن بها، وجعل قطبها تقنيا القاص الأمريكي ( او هنري ) ينفرد بنمط من الكتابة الأدبية تفوق وبرع فيه الى حد صار علامته المميزة والمعتبرة، ويعتبر بورخس الكبسولة لحظة زمن فارقة لاتقدر وأن فلتت ضاع كل شيء، وتلك القيمة المعنوية للقصة القصيرة جدا، والقيمة الأدبية لها اعمق بكثير.
أن تلك الكبسولات هي نصوص تؤكد بذاتها جنس القصة القصيرة جدا، وهي ليست كما اعتدناه وقبلناه من احوال او تقاليد، بل هي نمط مختلف اخاذ ويسحر ويربك يجلي زيفا متراكما تاريخيا عن حقيقة مسلوبة المعنى، ويقولفي هذا التوجه تورو ( لم يعد امام الفنان غير اشكال جديدة لم تتألف مع الزيف المتراكم )1، والكبسولة كانت هي المتطرف من الحكي او المختلف، وبعد تطورها لم تغادر هذا المسار،لذا هي فن خالص تجريبه يتحاج دراية وكيان فنان، واجزم أنه لايصل الى قيمة الفن الخالص فيها ولا يكتبها غير فنان، وهي قيمة ادبية لاتوازى، وهي ذلك الفن العظيم والتعبير الادبي المعتبر انسانيا، و( لا يكاد يختلف احد من الباحثين في أن الفن العظيم كان دائما وعبر كل العصور، هو ذاك الذي يمثل خرقا للعادي اليومي من مألوف القيم والأشكال الجمالية المضمونية ،أو اللغوية بل تكاد تنسب إلى الخرق للمألوف والمستقر من القيم )2، لكن وهنا لابد من القرار أن هذا الفن العظيم والحظة الزمنية الخالدة صار بضاعة رخيصة، واستهلت كتابته بشكل معيب، وتكرر التجاوز الواضح للبعد التقني لذلك الفن، والبعض استخدم لغة مركبة من شعري- وسردي، وانتجت من ذلك الفن اجناس ثانوية، فالبعض سعى أن يتحاشى التعارض مع الاطار الفني لجنس القصة القصيرة جدا، فابتدع تسمية ( الومضة ) معتمدا على قصر مساحة المادة المكتوبة في جملتين او اكثر، وفي التحليل الفني للومضة نجد ارتباك خلقه تعارض، حيث تستخدم لغة الشعر المتعدية بطبيعتها المالوفة ووظيفتها شعرا، ويزاحمها فعل سردي، وهذا دليل على عدم فهم لأليات الكاتبة السردي التي يتمثل بها بها جنس القصة القصيرة جدا، وهذا الاستسهال صراحة هو سم الجهل الذي لابد أن نتجرعه مرغمين، واضافة لذلك السم القاتل، هناك نقاد اختلط عليهم الأمر، وذلك لعدم وجود دراية باسس البناء، اوغياب القراءة العميقة لتقنية بناء الجنس، بل اعتمدوا على نصوص لاتتوافر في اغلبها عناصر بناء هذا الجنس، ، والغريب أن احالاتهم خالية من المنطق، فلابد لكل جنس اسس بناء تعتمد اساسا، واي تجاوز لاطار تلك الأسس هو خلل او فشل في امكانيات العتبير الكتابي قد يكون، ولكن هذا الفن الخالص التاريخي الذي يمثله جنس القصة القصيرة جدا سيبقى كبسولة الشفاء الأدبي والبلسم السقيم ايضا، كما سيبقى ذلك المهرج المكتوب الذي هو يضحكنا ولايضحك .
1- عصر الرواية – د محسن جاسم الموسوي