انت هنا : الرئيسية » الواجهة » محمد الفرسيوي: “أوامر الياسمين” للشاعرة السورية عهدات موسى

محمد الفرسيوي: “أوامر الياسمين” للشاعرة السورية عهدات موسى

رأي اليوم

في ديوانٍ شعري أنيقٍ، من الحجمِ المتوسطِ، منشورات دار بعل/ دمشق، تُغني الشاعرةُ السوريةُ عهدات موسى للوطنِ والحياةِ والسلام في زمنِ الحربِ والدماء، وتنشدُ للياسمين أشعاراً، تَعَتقَتْ طويلاً على ضفتي الألمِ والأمل، بين الدماءِ والخرابِ والآهاتِ وبين يقظةِ الروحِ القابضةِ على النصرِ والفرحِ المقبلِ والآتي النظيفِ في ثوبِ الصمودِ والعزةِ ونسائم الياسمين…

عهدات موسى، شاعرةٌ من هذا العصرِ المنثورِ ظُلماتٍ وحروبٍ على الضعفاءِ والفقراءِ وبلادِ الأنبياءِ والشعراءِ والأبجديةِ الأولى… شاعرةٌ بما جرى ويجري مِنْ ذبحٍ للإنسانِ قبل حقه في الحياةِ والسلامِ والفرحِ والغناء… وبما يُخَزنُهُ الغدُ الوشيكُ لعشاقِ الحريةِ والإباءِ مِنْ آفاقٍ وَلادةٍ، خَلاقةٍ وواعدةٍ بعطرِ المحبةِ وطيبةِ الشهداءِ والياسمين.

هي “أوامر الياسمين” من أرضِ الشاعرةِ وبلادِ الياسمين… وهي العبارةُ التي تُسَمي الديوان، وتتعَرشٌ عنواناً له ولقصيدةٍ في قلبِ هذا الكتابِ وعلى خِصْرِ طقسه الشاعري الأَخاذ.

كيف أكتبُ عن ذي التجربةِ الشعريةِ الخاصةِ والمُمَيزةِ؟ بأي منهجٍ في القراءةِ والنقدِ والتلقي، أتوسلُ لأقدمَ روحَ الشعرِ فيها، ولأَتقفى حروفَ البوحِ والإبداعِ بين سطرٍ شعري وآخر، بين قصيدةٍ وأخرى، وبين صرخةٍ عاليةٍ وأخرى حالمة…؟

هنا والآن، في تجربةِ المبدعةِ عهدات موسى، تُسعفني جماليةُ التلقي، يٌسعفني ما يٌشبهُ الانطباع المتفاعل مع روحِ الإبداعِ في النصوص، ولا تُسعفني مناهجُ النقدِ الكثيرةِ المثقلةِ بالمصطلحاتِ والمفاهيمِ والعباراتِ المُنحدرةِ من العلوم الأخرى… فكأني، هنا والآن، وفي هذه التجربةِ تحديداً، أخافُ من قتلِ الشعرِ باسمِ النثرِ، ثم أنتصرُ لفكرةِ؛ الشعر للشعر، الجمالية للجمال، والإبداع للإبداع.

في مقدمةِ الديوان أو التقديمِ لقصائده، تتعجلُ عهدات موسى الإنشادَ، لا وقت للنثرِ لحظةَ الشعرِ والشعورِ الوَثابِ العاشق… لا وقت للمجاملةِ أو التقليدِ من الإهداءِ إلى التقديم… ومِنَ المقدمةِ يبدأُ الإنشادُ، وكذا النشيد؛

مِنْ عطرِ بلدِ الياسمينِ

فَتحتُ بابَ الأملِ من جرحِ الألم

وقُلتُ لا تُعاندنِي يَا زمنَ الوجعِ في الحربِ

ففي ديارنا يَغْفُو ويَصْحُو قرصُ الشمسِ دون وجلٍ

وتتمددُ عريشةُ الياسمينِ فوق النوافيرِ

وتنتشرُ رائحةُ البخورِ في الكنائسِ والمآذنِ

مُعطرةً بعبقِ

 أرواحِ الشهداء.

“هي ذي بواكرُ أحرفي”…

بهذه العبارةِ، وبسطورِ شعرٍ مُرهفةِ الإحساسِ وعميقةِ الرؤية، تقدمُ الشاعرةُ السوريةُ الأنيقةُ عهدات موسى ديوانها الأول بقصائد أُبدعتْ كلها في هذه الفترةِ التاريخيةِ العصيبةِ والفارِقةِ من تاريخِ سوريا المعاصر… ومنذ الأولِ أيضاً، تتبلورُ الرؤيةُ الشعريةُ في هذه التجربةِ الإبداعيةِ صراعاً ضارياً وجمالياً، بين الألمِ والأملِ، بين السقوطِ والنهوضِ، وبين الواقعِ المُر والحلمِ الأكيدِ، النافذِ والأَحْلى… ذلك أن الياسمين في ذي الرؤيةِ الشعريةِ المُكابرةِ، يصيرُ أفقاً للتجاوزِ والتشكلِ من جديد… تجاوزاً لِحِدةِ الألمِ، لِوَقْعِ السقوطِ وللواقعِ المُسَودِ بالقتلِ والاستباحةِ والوحشيةِ، نحو الأملِ الوضاء، النهوضِ الأكيد، والحلمِ الوثابِ الجميل.

فهل أكونُ موفقاً، إنْ قلتُ؛ مَا يميزُ شاعرتُنا أكثر مِنْ مجردِ تَمَلكِها لناصيةِ اللغة والتعبير، لِسِحْرِ “القولِ الشعري” و”البوحِ الشاعر” المُبْدَعيْنِ بلسانِ الضاد، ولِسِر التعبيرِ بلاغةً وخيالاً جامحاً وتشكيلاً مُبدعاً باللغةِ الفنيةِ الصادقةِ والخلاقةِ للمعنى والجمال…؟

فهل أختزلُ، في سطورٍ قليلةٍ، تجربةَ شاعرةٍ من طينةِ هذه الأنثى؟

شَاهَدَنِي وأنا سافرةُ الرأسِ

ووَجْهِي بدونِ نِقابٍ

أتزينُ بالكحلِ العربي وبأَحْمْرِ الشفاهِ

شَاهدني أُغازلُ وطني

بين ضفتيَ برَدى

وتحت ظلالِ الصفْصافِ

سألَ مَنْ أنتِ؟

أَجَبْتُ، أنا أُنْثَى الله…

هكذا، ينمو الخيالُ الشعري رشيقاً وغنياً على مَد نصوصِ الديوان وأشعاره، مِنْ الانزياحِ باللغةِ والجملةِ الشعريةِ مجازاً واستعارةً وتمثيلاً، إلى الحضورِ الكثيفِ الوَلادِ للمعنى وللرؤيةِ الشعريةِ المُفْعَمَةِ بجماليةِ التحدي والنهوضِ والمقاومة، بواسطةِ الرمزِ اللغوي؛ عنترة، عَبْلَة، سلمى، الكنائس، المآذن، الياسمين، الأَعْراب، الغرباء، الحروب، الصفصاف، الزيتون، الكُوفية، الصحراء… ورمزيةِ الأمكنة؛ الشهباء، قاسيون، الشام، الحامدية، دمشق، حلب، دير الزور، طرطوس، اللاذقية…

بيد أن الياسمين، مُشكلاً وممهوراً بذي الأسماءِ والرموزِ وكمياءِ اللغةِ والتعبير، يتحولُ في المتن الشعري للديوان، إلى أم الرموزِ، إلى البطنِ الولادةِ للأملِ الطالعِ من قلبِ الألم، إلى الفرحِ الذي يتشكلُ حتماُ في رَحِمِ الجنائزِ ودموعِ الصغارِ والكبار، وأيضاً إلى النصرِ المقبلِ على صَهْوةِ الإباءِ والشهادةِ والصبرِ والصمود… لذلك، تنشد؛

هِوايتي أنْ أهواكَ

ولكَ

أشتري الحب مِنْ

قلوبِ العَذارى والفقراء…

وفي قصيدة “أَوامرُ الياسمين”، تُواصلُ الشاعرةُ الغناءَ للوطن، بذاتِ النفسِ الشعري الواثقِ مِنْ الربيعِ الذي لا تسقيه أو تُخَضرُهُ سوى أناملُ العشاقِ والشعراءِ والأتقياء… وحدها الشاعرة ومَنْ مِنْ هذه الطينةِ الحالمة، مثل بروميثيوس، مَنْ يسرقُ الضياءَ من الظلام، من أجل ضياءِ الوطنِ وكل الدنيا؛

مَا ذَنْبِي

إذا كان الياسمينُ يَأمْرنِي

بأنْ أسرُقَ الزهورَ

لأنْشرَ عطرَها

بين الجبالِ والسهولِ

ولِأمْحوَ

رائحةَ الموتِ

من قوافلِ الحروبِ

وليُزهرَ

القمرُ

لكَ

ربيعاً من انحناءاتِ الخسوفِ؟

يتواصلُ هذا النفسُ الغنائي، الشفافُ العنيدُ، في المساحاتِ الأوسعِ لنصوصِ الديوان… غير أن الانفعالَ الشاعري جَراءَ عنفِ اللحظةِ التاريخيةِ أو حِدةَ الواقعِ الموضوعي يتسربان خلسةً بين قصائد وأخرى، وأحياناً بين أسْطُرٍ شعريةٍ وتلك التي تَلِيها، في ثوبِ “الموقفِ الفكري” و”البيان الشعري”… وهي “الخطابية” التي لا تخدشُ “شِعرية الديوان”، كما في أسْطُرِ هذه القصيدة، التي تفاعلتْ فيها الشاعرةُ مع نازلةِ طرد سورية مِما يُسمى بالجامعةِ العربية… !

لا يستهويني حبكِ يا دمشق

إلا بأزرارٍ

أَفتحُ عُرْوَتَها

من زنانيرِ نصركِ

الممهورِ بشقوقِ الصباح

–  –  –  –

وفي صفحةِ الجفونِ، سأكتبُ

“هُنَا قمةٌ عربيةٌ سورية

هُنَا النصرُ من تاريخِ الأَبْجَدية”

لستُ متأكداً البَتةَ، أنني استوفيتُ الشاعرةَ حقها أو أشعارَ الديوانِ ما تستحقه، في هذه القراءةِ السريعةِ أو الانطباعِ الأولي… لكنني، وأنا أَسْرَحُ قارئاً ومُتَلَقياً بين قصيدةٍ وأخرى، عِشْتُ فعلاً لحظات جمالٍ مُتواصلةٍ، تَنْسَابُ أَخاذَةً مِنَ المبنى إلى المعنى، مِنْ “بلاغةِ الوضوح” إلى “بلاغةِ الإمتاع″، ومِنْ الصراعِ الإنساني الضارِي والخلاقِ بين الواقعِ والحلم، ببن الحزنِ والفرح، وبين الألمِ والأمل، إلى حيثُ الياسمينُ نَدَى الحياةِ المقبلة، دماءُ الشهداءِ مِلْحُ الأرضِ وضياءُ السماء، والمقاومةُ هي البدءُ والمنتهى…

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى