انت هنا : الرئيسية » الواجهة » صالح الدريدي: الذّات والمرآة في تجربة هدى الدغّاري الشعريّة

صالح الدريدي: الذّات والمرآة في تجربة هدى الدغّاري الشعريّة

صالح الدريدي

الجنسانيّة، من منظور ميشال فوكو، ليستْ الجنس في حدّ ذاته. بل الخطابات التي تتشكّل حوله أو إزاءه. ورغم أنّ الواقع الاجتماعيّ العربيّ شهد منذ بداياته التاريخيّة مراحلَ متعاقبة من التوتّرات فيما يتعلّق بمسألة الجسد، فإنّ الأدب مثّل فضاء رمزيّا بديلا لتجاوز رفض المجتمع وفرض النّزعات الإيروسيّة للذّات، لذلك لم يكن الجنس، كموضوع أدبيّ، محرّما في تاريخ الأدب العربيّ. لكنّ المسافة بين الواقع الفعليّ والواقع الرمزيّ، فيما يتعلّق بأدبيّة الجنس، كانت دوما هي المعضلة. وهذا ما سنعمل على توضيحه من خلال بعض الإضاءات على تجربة الشّاعرة التونسيّة “هدى الدغّاري”.

***

في مجموعاتها الثّلاث (لكلّ شهوة قطاف، ما يجعل الحبّ ساقا على ساق، سبّابتي ترسل نيرانا خافتة) تعمد الكاتبةُ إلى الجسديّة لتجعلها إطارا دلاليّا من أجل بناء شعريّة نصوصها. نعني بذلك أنّ تفاصيل الجسد وعوالمه كانت مدار الاشتغال اللغويّ للكاتبة. فهي تحاول، من نصّ إلى آخر، أن تتوسّل بالجوانب الحسيّة المرئيّة لتشكّل بها المشهديّة: “الجسد المحموم/ يتهيّأ/ لافتراش أوراق التّوت/ حريرا على السّرير/ كان حين يظمأ/ يرتشف حبر شهوته/ وحين يجوع…/ يأكل من أوراق توته العبق”. وهذه المشهديّة تراوح بين التّوصيف الحدثيّ الموضوعيّ وبين الموقف الذّاتي.

يبدو التّوصيف واضحا في نصوص كثيرة (خصلة من شعرها، تجيئني عيناك، خلفي سماء، اصبع عابث، شموس تمدّ مطريّة، أقترفك ثانية، بين إبرتيْن، حفلة، غياب، بلا بذار، لا تقلْ لي يا شقيّة، ثمّة ما يشبهني، مذاق يدك…). فالشّاعرة تتبع آثار الجسد وانفعالاته ووضعيّاته. تتلقّاها، ثمّ تستحضرها في فضاءاتها النصيّة كما هي، دون أن تعنى يإدخال تحويرات على واقعها العينيّ: “ليلة، ليلتان/ وحلم واحد يتكرّر:/ عيناك تومضان/ وتشتعلان فيّ شهوة متّقدة/ بيني وبينك مسافة،/ أجثو فيها على ركبتيّ/ فيها جرعة من هواء،/ تسعفني بها حروف اسمك./ هيّأت نفسي لك/ وارتديت ألوانك”.

إنّ الأنا الشّاعرة تكتفي، أثناء التّوصيف، بوظيفة النّقل. غير أنّه نقل مسهب في حسّيّته، الشّيء الذي يدعو القارئ إلى الاعتقاد في صدقيّة المشهد، وإلى الرّبط الآليّ بين الأنا وقولها، ومن ثمّة بين الأنا وفعلها. وهذا ناجم عن كثافة الوصف وعن حضوره كوسيط بين المرئيّ (الواقع) واللغويّ (النصّ): “نظرة حارّة/ أمطار خريف على شعره المبيضّ/ قلمه الجافّ أنبت على الورقة نساء بمظلّات صيف، منحنيات في بيادر القمح/ جارتنا المحاذية كثيرة الثرثرة/ نامت ليلة البارحة تحت صوت الرّصاص/ خفّ عقلها وطار ليأكل حبّات قمح/ سقطت من الورقة”. وعلى غرار ذلك، تمضي هدى الدغّاري في لملمة التّفاصيل الحميمة وفي تجميعها، من أجل تكثيف دلالات عالمها الحسّيّ عبر الوصف.

أمّا الموقف الذّاتي، فقد ظهر في نصوص أخرى. ومثّل أداة مهمّة في تيسير مسالك الشعريّة في نصوص الكاتبة. فمجموعاتها الثّلاث لا تخلو من نبرة خطابيّة، تصل أحيانا حدّ المباشرة. حيث اعتمدت في أكثر من مقام على أفعال الكلام كوسيط بين عالم الأنا الداخليّ والعالم الذي يكمن إزائها. ولئن كان بالإمكان أن نعتبر ذلك تسريعا لرغبات الذّات حين تتسلّط عليها قصديّتها الحسيّة، فإنّه يمكن أيضا أن نعتبره تبسيطا للقارئ أو تنويعا للسّياقات الدالّة. وقد حضر ذلك خاصّة في مجموعتها الأولى (لكلّ شهوة قطاف): “كنْ منفردا، لا تكنْ مزلاجا على باب غيرك”/ “ربّي ولهت فلا تعاتبني/ عشقت نصْب الخيام عسسا، على شفا حلمتيها/ فلا تقل لي هذا حرام”/ ” لا حاجة لي برقص/ برقص غيمك/ فوق أرضي/ ستجيئني الزّوابع من كلّ الجهات/ لن أنقع الفجر في أودية برودك/ سيغتسل فجري في التماع النّجوم”…

***

كتابات هدى الدغّاري يمكن إدراجها في “نسق المرآة”. فالشعريّة عندها تنبني وفق الرؤية، لا الرّؤيا. وذلك بحكم الوصف المعتمد بكثافة في تشكيل دلالات العالم الشعريّ. تستغرق الكاتبة تجربتها في تأمّل المنظور ونقل تفاصيله، أحيانا أدقّ دقائقه، ومن ثمّة يصير النصّ عندها احتفائيّة بالملموس وغنائيّة للمحسوس. ورغم ذلك فالعالَم يفقد وجوده الخاصّ ويلتبس بذاتيّتها: فـ”كلّ ورود الحدائق تحرّك رعشة شفتها السّفلى، فيشتهي شمّ النّسيم على شرفتيْ نهديْها. [ويتمنّى] أن يكون الطّريقَ، حين تمطيه خطى خمرها وتحتسيه عطرا شرقيّا، [لأنّها] فيه على تخوم العمر.. وهو المنزلق في فجوة ضلعها، ينسكب فيها عربدة وينسحب منها راهبا ظلّه يضئ”.

إنّ الأنا الشّاعرة على درجة عالية من النرجسيّة في المجموعتيْن الأولييْن: “لكلّ شهوة قطاف” و”ما يجعل الحبّ ساقا على ساق”. ولقد أصابتْ الكاتبة في عنونتهما. فهي لئن أوهمتْ القارئ بأوان قطاف الشّهوة، بما تحمله من تشارك ومن غيريّة، فإنّها لاحقا استعادتْ عزفها المنفرد وجعلتْ من الشّهوة/ الحبّ جلسةً نرجسيّة “ساقا على ساق”.

إنّ “نسق المرآة” هو الشعريّة الأقدم. بدأها نرسيس على ضفّة النّهر وهو يحتفي بصورة الأنا على صفحة الماء، في حين كانت “إيكو” (الصّدى) تقف خلفه عالقة في عشقه دون أن تقدر على البوح لأنّها مجرّد صدى. وبما أنّه كان منشغلا بذاته مستغرقا في عالمها، فلم ينتبه إلى الغيريّة. وانتهى به الأمر لاحقا إلى الغرق في النّهر أثناء محاولة تقبيل صورته.

تمثّل “إيكو” مختلف الأصداء الحافّة باللّحظة الشعريّة من أصوات تزدحم في ذهن الكاتبة وتتعلّق بعناصر محيطها وتفاصيله وجماليّاته المختلفة عن عوالم الأنا المباشرة. وهي أصوات غابتْ في المجموعة الأولى والثّانية، فكانت النّصوص غنائيّة فرديّة بحسّيّتها وجسديّتها. ثمّ تداركت الكاتبة ذلك في إصدارها الأخير:”سبّابتي ترسل نيران خافتة”. واضح من العنوان أنّ هدى الدغّاري بدأت في ربط الصّلات مع الآخر، وفي إنشاء علاقات جديدة تنأى عن صورة النّهر. فقد تخلّصتْ النّصوص من الوصف الحسيّ الذي ينبني على النّقل نحو سرديّة مخاتلة جعلتْ الانتظام البصريّ لأسطرها الشعريّة يتغيّر. فقد صارت أطول وأكثر امتدادا بما يتماشى مع نَفَس السّرد: “لي رغبة أن أعلّق قلبي بمشبك مع غسيل أمّي المبلّل/ أن أصفّفه حذو جواربي الملوّنة، وشالِ أهديتنيه ذات ليلة باردة/ قلبي المجفّف على ناصية البيت/ عاد من جولة في عينيْك كقطعة خبز منقوعة في آنية زيت/ لي رغبة أن أمشي بقلب مفتوح على زجاج مهشّم/ أن ألعق النّار بلسان رطب/ أن أدور حولك كنحلة تطنّ ولا تلتفت”.

في مجموعتها الأخيرة، تتخلّص الكاتبة من الآنيّة المباشرة ومن المرئيّ الحسّيّ، لتلتفت إلى الذّاكرة فتستحضر ما طواه النسيان، وتنتبه إلى حضور الآخر فتستذكر ما تعلّق به لا ما يتّصل بالأنا. تصير نصوصها أكثر كثافة ومتعة، وتنفتح بنا على ممكنات جديدة تجعل الذّات أكثر ثراء بعد أن تباعدتْ عن مرآتها وصارت ترى نفسها في غيرها. وهذا التحوّل مهمّ، فقد جعل الاشتغال على شعريّة الجنس ينتقل من دائرة الوصف العينيّ إلى مدار الرمزيّة. فاتّخذ الجسد بتفاصيله الحميمة دلالات بديلة.

انتقال، يؤكّد وعي الكاتبة بتجربتها ويجعلنا ننتظر نصوصها القادمة.

(*): كاتب من تونس

المصدر:رأي اليوم

عن الكاتب

عدد المقالات : 1618

اكتب تعليق

الصعود لأعلى