في ذكراك ياغسان نفتقد ضميرا للثقافة الفلسطينية.. نحن خدعنا وسرقنا من قبل انصاف مثقفين
يوسف شرقاوي
ليس في الأمر غرابة، أن يهتف الطفل عائد الميعاري, بائع الكعك, أمام المدرسة الإبتدائية, في مخيم تل الزعتر, في يوم استشهادك, انت ولميس, يوم 8 تموز1972 فيتنامي يا فيتنامي, انت وراك هانوي, وانا وراي, حرامي.
كان الطفل اليتيم عائد الميعاري 9 اعوام, يعتبر نفسه شبلا في الجبهه الشعبية لتحرير فلسطين, لم يكمل دراسته الإبتدائية, أسوة بزملائه في المخيم, لأنه اضطر للعمل بائعا للكعك, ليتمكن من اعالة شقيقته انشراح، 6اعوام، لأن والديه قضيا في غارة للطيران الإسرائيلي على مخيم النبطية.
فاضطر للعيش هو وشقيقته انشراح عند خالته في المخيم, وكان عائد خفيف الظل, يمتاز بذكاء خارق, تكتشفه وهو يحدثك عن ابي الخيزران، السائق الذي خدع الرجال في رواية غسان كنفاني رجال في الشمس, وكان يتنبأ دائما ان هنالك العشرات امثال ابي الخيزران يعيشون بين ظهرانينا.
كان يحدثنا هذا الشبل عن ثقافة غسان وكان يحلو له ان يسميه غسان الإنسان, وكان يذكرنا ان غسان كان يلتقط أكياس الإسمنت الفارغة من امام البنايات في حارات دمشق وينظفها ويقطعها على شكل مربعات، ومستطيلات ويلصقها بدقيق الإعاشة المغلي مع الماء والنشاء, ليتصبح اكياسا من الورق يبيعها في سوق الخضار ليشتري الخبز والكتب.
آه يا غسان, كيف ارجعتني سنوات وسنوات الى الوراء؟ لأتذكرك انت وعائد الميعاري, الذي استشهد عام 1976 على يد الفاشست الانعزاليين عندما اقتحموا مخيم تل الزعتر, وبعدها فقدت شقيقتك انشراح مع مئات المفقودين من ابناء المخيم.
اتعلم يا غسان انني استمعت الى صديق لي مقدوني الإصل شبّهك بمكسيم غوركي, وكان كلما يتحدث عنك يقول غسان كنفاني مكسيم غوكي الشعب الفلسطيني! كيف دخلت الى تفاصيل حياتنا؟ ومن اين أتيت لنا بإسم ابي الخيزران؟ وكيف تنبأت باصحاب الكروش النتنة انت وصديقك الشهيد ناجي العلي؟
غسان…علمتنا حب الحياة, ولكن ليس اي حياة, حياة العزة والكرامة الإنسانية والتحدي, لذلك لم تمت الا بعد ان كنت ندا, ونحن” لازلنا” نحب الحياة ولو لم نستطع اليها سبيلا ودليل ذلك انك لا زلت حيا فينا, فأمثالك لا يموتون في وعينا.
غسان اصبح سلاحنا سلاح الفضيحة, ووعينا وعي الفضيحة, اغرقتنا النسخ الفاسدة, والمزورة, وكم نحن بحاجة الى نسختك الحقيقة, نسختك المعنى, وانت المعنى, ونحن رخويات بلا معنى.
غسان اما زلت تؤمن كما كانت ام سعد تؤمن بأن الموت ليس هو النهاية؟ وكما كانت آني زوجتك تؤمن أن موتك لم يكن هو النهاية؟
صحيح أن موتك كان الغصة, والقصة بالنسبة لنا, وأول الحكاية, انها البداية, وليست النهاية, كما توهمت الصهيونية.
غسان كنت تكتب وكنا نقرأ, كنت تصرخ، وكنا نهمس, كنت تجيد السباحة عكس التيار وكنا نغرق في الأوهام, كنت تتكلم بعشرين لغة, لغة الحياة ضد الموت, والنسيان, كنت تزدري التردد, وتعشق الإقدام, كنت تفرق بين الجبن والشجاعة، وكنت تميز الغث من الثمين، وكان عنوانك المطر وسنابل الموج، وكنت فاتحة الخصب.
اتعلم يا غسان انك لازلت تأتينا في عقولنا, ومنامنا، واننا لازلنا نرى ام سعد تحوم حول صورتك على مدخل مخيم الدهيشة للعائدين في مدينة المهد، تأتينا كذلك ام سعد في عقولنا ونومنا، وتسألنا السؤال الكبير من هو الميت ومن هو الحي؟
تعبنا يا غسان، تعبنا يا انسان, انهض من نومك واتل علينا ما تيسر من كتابك المفتوح على المدى، المفتوح على الحياة، والأمل.
فنحن نعيدها ونكررها نحب الحياة، ولو لم نستطع اليها سبيلا
ولكننا نفضل الموت على استهلاك الروح والذات بالقدح، والذم، والردح
فنحن ظلمنا شعبنا، وانفسنا, بابي الخيزران وبيهوذا
وداعا غسان ايها الحي فينا ولو ان اكثرنا لا يشعرون
المصدر:رأي اليوم