عباس خلف علي: أدب الرحلات: سيرة الذات أم أبداع في السرد؟
عباس خلف علي
يقول د. شعيب حليفي في كتابه – الرحلة في الأدب العربي – إن هذا الفن الذي لازال غير خاضع لتعريف دقيق يؤطر حدوده ، يعد من فنون الأدب العربي والعالمي لكونه يتجه لعلاقات التفاعل بين التجربة الشخصية ومهمة الخطاب المعرفي ، فبين هذا التنوع يتشكل بعده الإنساني أدبيا وفكريا وفلسفيا كجنس إبداعي له حضوره المتميز ..إن أغلب الكتابات في هذا الحقل وإن لم تظهر تحت مسمى أدب الرحلات ، وإنما كان يظهر أحيانا تحت خانة ” كتب التاريخ أو الجغرافيا أو السيرة الذاتية أو كتب الاعتراف أو أدب الاعتراف ” وهكذا فإن هذه التسمية (أدب الرحلات ) تسمية وليدة هذا العصر وما شهده من دراسات ومصطلحات وتقسيمات لفنون وألوان المعرفة الأدبية نتيجة الاهتمام بهذا اللون من الأدب الذي أخذ يتسم بتجسيد الرؤى والأفكار ولم يقتصر على المشاهدات التي كانت مثابة الدليل في التعريف عن الأمكنة وطبوغرافيتها وقد تصل إلى مسالك الطرق وعمران المدن ولباس الناس وتقاليدها وطقوسها لتدون كأرشيف يتبادل مع الواقع حرفيا قطعة بقطعة ، ماعاد هذا اللون يقتصر الآن على هذه الأسباب بل يتعداها في تشكيل نص جامع متجانس له خصائص ووظائف تميز أطره في الأداة والآلية .
إذا كان أدب الرحلة يوفر لنا نافذة نطل منها على التاريخ وسيرة المكان والإنسان في مواقع مختلفة من هذا العالم، فإنه وفر لنا أيضا مجالا تتداخل فيه الرواية التاريخية مع السرد، مختزلا لنا مفهوما متقدما لقراءة التاريخ عبر نصوص أدبية تعتمد الوثيقة مرجعا للتماثل والتبادل
وهو ما يستدعى تصنيفًا موضوعيًا للرحلات، ودراسة فنية لها فى ضوء هذا التصنيف، وهنا سوف يدع الباحث جانبًا ما أشيع من أن معظم ما كتبه العرب فى هذا الجانب أدبٌ جغرافى، كما قال بذلك الباحثون الروس وغيرهم من الباحثين العرب.
ومن جهة أخرى إذا كان المستشرقون الروس يرجعون هذا اللون من الكتابة إلى القرن العاشر الميلادي، فإن المكتبة العربية تؤكد أنه ظل ممتدا ومستمرا حتى وقتنا الراهن، بل إنه ازدهر وشهد تطورا في الموضوع والرؤيا، والهدف منه، واللغة التي يكتب بها، إذ من الملاحظ أن عددا كبيرا من الكُتاب المعاصرين، يحرصون بين لحظة وأخرى، على أن يدونوا رحلاتهم ومشاهداتهم و ما يلاحظونه في تنقلاتهم هنا وهناك، وذلك في كتب مستقلة لها طابعها الخاص.
ولعل ما يساعد هؤلاء الكُتاب أن وسائل الاتصال الحديثة والسماوات المفتوحة وتكنولوجيا المعلومات، وعالمنا الذي أصبح قرية واحدة، ، أضف إلى ذلك أنهم يستعينون في كتابتهم لرحلاتهم بالصور والمعلومات والوثائق، وكذلك التشويق والترغيب والمقارنة، والخبرة، والثقافة، والرؤيا، وهي بالتأكيد كتابات تختلف كثيرا عن تلك الكتابات التي تركها لنا أعلام الأدب ورواده .
تنوع أدب الرحلات يتيح لنا فرصة استكناه كل عمل،وجلاء ما يتميز به، وما أضافه، كما يسمح بالمقارنة بين الأعمال المختلفة، بل إنه يكشف عن الاتجاهات المتباينة لأدب الرحلات وفقًا لما تتضمنه كل رحلة .
وكما يقول د. يسري عبدالغني إن دراسة أدب الرحلات تستلزم البحث في كل رحلة على حده من حيث هي بناء فني وإبداع أدبي، له أسسه الخاصة، وملامحه الذاتية التي تميزه عن غيره من فنون الأدب الأخرى التي قد تشترك معه في بعض الخصائص والسمات
وهذا هو المنطلق الذي يمكن أن يحتوي أبعاد وتجسيد روح الموضوعية في كتابة هذا اللون من الأدب، فنحن عندما نتعامل مع هذا الجنس باعتباره شكلا فنيا خاصا، وليس تسجيلا جغرافيا محض. في سياق الانتماء لتجربة الكتابة السيرية التي تمزج بين التراث والكتابة الرحلية بمفهومها الثقافي المتضمن قيمة الشهادات والمشاهدات في الزمن والمكان والعلاقات .
فأننا نحتفي ببعد المكان الثقافي بكل تجلياته الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية التي تمنحنا قراءة جديدة ، قراءة لاتعيد بناء أسطورتها التاريخية ولا تتمسك بجلباب الرواة المدمنين على نسخ الحقائق وتوريثها بل تنشط بوعي خلاق له القدرة على اكتشاف واستنطاق بؤر مضمرة واجهت تحولات البيئة وتقلباتها بين الأزمنة لكي يتميز فيها المروي الجمالي على المروي المتخاذل والمهادن الذي لاينفلت من هيمنة ضغط المشاهدة والتبادل مع الواقع قطعة بقطعة ..فعل المشاهدة فوتوغرافي ساكن الحركة يختلف جذريا عن ما تمنحه الرؤيا من استدلال ينفتح على أجراح المعاني وافق تمسرحها في الذهن وهكذا يستفيد نص الرحلة من هذا الانزياح من طبيعة التتبع البيوغرافي إلى فضاء أرحب ..فضاء يتسع أن يوهب لنا مزايا تتجلى فيها صور ساحرة تضاهي واقع المكان المادي وتتجاوزه إلى ما يستثري مسارب الحكاية وفتنة السرد .
المصدر:رأي اليوم