جماليات الطفولة في السينما
باريس ــ حميد عقبي
وجود شخصية طفل أو طفلة بالفيلم قد يحمل الكثير من السحر والبراءة ويعطي لمسة إنسانية وجمالية لا توصف عندما يتم جعل هذه العناصر فعالة، هذه الشخصيات الطفولية بما تحمله من براءة وروح صافية من العناصر المدهشة في المناخ السينمائي، للأسف هناك من يجعله هامشية كقطع الديكور المهملة، الكثير من المخرجين مثل المخرج الروسي أندرية تاركوفسكي والعبقري السويدي انجمار بيرجمان والمدهش لويس بونويل وغيرهم كانوا يستغلون ذكريات الطفولة وتمريرها من أجل خلق شعرية سينمائية و التحليق في عالم الحلم.
أندرية تاركوفسكي في فيلمة “طفولة ايفان” عكس وجهة نظره تجاه الحرب وقسوتهاوفي فيلم ” المرآة” عاد تاركوفسكي لقريته وجهز الديكور الخاص لفيلمه معتمدا على صور قديمة للعائلة، من خلال أندرية طفلا حلقنا في ذلك العالم الطفولي المشحون بالحلم والأمل وكان الفيلم بمثابة قراءة روحية من خلالها ليظهر قيمة الأم والأرض.
من اروع ما يجب علينا مشاهدته فيلم ” اللعب المحرم ” للمخرج الفرنسي رينية كليمنت، تدور أحداث هذا الفيلم خلال الحرب العالمية الثانية حيث نرى قصفا فضيعا على عدد من القرى ونزوح المئات، يصيب القصف هؤلاء الناس، نرى الطفلة الصغيرة هالجميلة (بوليت) ممسكه بكلبها وعندما يفر منها تركض للحاق به، هنا يصاب أبوها وأمها، هي لا تعرف معنى الموت، تاخذها أحدى العربات لكن توجد سيدة ترمي بكلب بوليت، فتنزل بوليت للبحث عن كلبها، تجده ميتا، تحمله معها ثم تتابع رحلتها إلى أن تصل إلى قرية صغيرة وهنالك تلتقي بميشيل لترتبط معه بعلاقة صداقة، تذهب معه إلى بيته ، يصاب شقيق ميشيل بسبب حصان جامح وبسبب هذه الحادثة يظل مريضا إلى أن يموت، تنشغل بوليت بكلبها الميت ويقرر ميشيل أن يبني مع بوليت مقبرة، يكون أول الوافدين للمقبرة هذا الكلب الصغير ثم يتم جمع حيونات وحشرات لتكتمل اللوحة،ترغب بوليت أن يكون في المقبرة صليب مثل الصليب الموجود بالكنيسة، يعمل ميشيل على سرقة الصلبان من المقابر كي يرضي صديقته، في ظل هذه الظروف نرى أن عائلة ميشيل وعائلة أخرى في عداء مستمر رغم وجود علاقة حب بين شقيقة ميشيل والشاب من العائلة الثانية، هنا في هذا الفيلم يلتقي الحب والموت والصداقة والقسوة والحلم في خلطة شاعرية مدهشة.
من خلال وجهة نظر الأطفال نتعرف على معنى الموت والحرب والحب والصداقة بشكل رائع وسلس، يقودنا ميشيل مع بوليت لنكتشف هذه المواضيع الصعبة والشائكة، يأتي التعبير عنها بشكل طفولي بعيدا عن تعقيدات الدين، رغم أن أسلوب الفيلم يميل للواقعية الاجتماعية إلا أننا نحسُّ بروح شاعرية جذابة ورائعة من خلال شخصيات الأطفال التي حملت لنا الكثير من السعادة والأمل، خلال أحداث عصيبة تعصف بها الحرب والدمار والكراهية، كان المخرج يوجه رسالة عالمية نحن بحاجة إلى فكر وروح طفولية برئية وصادقة لا تعترف بالتعقيدات ولا تعرف معنى الكراهية والعنف، تناقش هذه القيم والقضايا الصعبة والشائكة بكل حرية وإنسانية، هنا المخرج يمرر رؤيته ويوجه النقد المعارض للدين الذي بحسب رأيه لا يحمل الكثير من الروح ويهتم بالمظاهر والطقوس أكثر من الروح، يقدم نصوصا غير مفهومة ولا يقبل الجدل والنقاش وهو لا يحمل للإنسان الكثير من السعادة وليس لديه القدرة على إيقاف العنف والدمار وكل هذه الحروب.
ميشيل هذا الطفل الذي يحفظ نصوص دينية في كل المناسبات ويذهب للكنيسة، هذا الطفل المتدين مع تعارفه مع الطفلة بوليت التي تجهل الكثير عن العالم ولا تعرف حتى من يكون الله أو المسيح لكنها تحمل روحا صادقة وحالمه، تتغير تصرفات ميشيل ليتحول إلى ملحد ويحاول سرقة صليب الكنيسة من أجل أن يحقق حلم صديقته في بناء مقبرة نموذجية، ينحاز إلى عالم الموت وذلك من أجل أن تفرح صديقته.
من خلال تناول موضوع الطفولة أو وجود أطفال يمكننا أن نعود إلى العالم البدائي بكل بساطته، يمكننا أن نثير أسئلة معقدة حول الكون والدين والسياسة والمجتمع وأن نحلق في العوالم الأسطورية والميتافيزيقية بشكل سلس وغير مباشر، ان يكون ابطال فيلمك أطفال أو للشخصيات الطفولية مساحة جيدة وديناميكية فهذا لا يعني أن الفيلم موجه للأطفال فقط، كيف تجعل المتفرج يعود لطفولته أو بعض ذكريات الطفولة ؟
هناك أفلام عديدة يمكننا أن نستفيد من مشاهدتها فعلى سبيل المثال ” أربعمائة ضربة ” لفرنسو ترافو، من خلال الطفولة هناك أسئلة عديدة حول الحرية ومعناها، ثم الغوص في تفاصيل عميقة للمجتمع الإنساني وما يسوده من تعقيدات بسبب التمدن والتكنولوجيا، ولكن في ظل هذه التطورات الاقتصادية والاجتماعية هناك القلق على الروح الإنسانية ومعاني جميلة تداس بشكل غير مباشر.
صورة الطفولة في بعض الأفلام هي نموذج للبرائة والثورة ضد التقاليد البالية ووجود شخصية طفل قد تكشف أنانية الكبار وعنفهم وخصوصا الأباء، هناك افلام تستثمر هذا الموضوع بشكل ذكي لفضح عنف السلطة و أنانية الأنظمة البرجوازية وقلة حيلة رسائل الدين وفراغها.
عباس كياروستامي هذا المخرج الايراني العملاق، له قدرة مدهشة وحس سينمائي رائع في تخلد صورة إنسانية للطفولة من خلال فيلمه ” أين يسكن صديقي” ، الذي تطرق لموضوع هام وحساس، مسالة الخوف، فالصغير أحمد يبحث عن منزل صديقه ليعطيه كراسة الواجب حتى لا يُعاقب من قبل المعلم، هنا في هذا الفيلم كل شخصية هي استعارة لشيء آخر مثل السلطة والديكتاتورية، يتطرق المخرج لموضوع الصداقة والعلاقات الإنسانية، من خلال رحلة أحمد يبحر بنا ليتعمق في هموم اجتماعية لتكشف أبعاد أخرى ليس فقط البعد الاجتماعي بل الإنساني وفضح قسوة الواقع والسلطة، يمرر أفكاره في قوالب تشكيلية وفنية موحية ، يغوص بصدق في عمق الشخصية ليبرز لنا قلقها ومخاوفها وأحلامها في قالب سينمائي مفجع، لعل أي سيناريست بحاجة لمشاهدة هذا الفيلم ليعرف ماذا تعني شخصية طفل وما يمكن أن تحمله الطفولة من بهاء وسحر؟
أن تكون سيناريست فعليك أن تمتلك خيال طفولي وتوظفه بشكل مؤثر وفعال من أجل تجاوز العنصر الدرامي و الإبحار في العوالم الميتافيزيقية لفهم الحاضر ومشاكله وتعقيداته.
المصدر:رأي البوم