السينمائي البولندي الراحل أنجيه فايدا.. السينما بحث فني متجدد ورحلة في الواقع والعمق الإنساني
حميد عقبي
المخرج البولندي الشهير الراحل أنجيه فايدا ، الذي غادرنا في شهر اكتوبر 2016، عن عمر تسعين عاما، تاركا ثروة فنية وأفلام تعد من روائع السينما العالمية لم تأتي شهرته بالحصول على العديد من الجوائز السينمائية العالمية، مثل جائزة سيزار الفرنسية التي حصل عليها عدة مرات وجائزة النخلة الذهبية في مهرجان كان السينمائي في 1981 وجائزة النقد الدولية في مهرجان فينيسيا السينمائي وحصوله على الأوسكار عن إنجازات حياته كلها عام 2000، إن أهمية سينما فايدا تكمن في أنها بحث مستمر في قضايا الإنسان وتصوير لبؤسه وألمه وأحلامه، فكل فيلم كان محاولة فنية لفهم الفن السينمائي وقوته التعبيرية وتجربة إنسانية صادقة لتلمس الروح وإنارة الطريق لها كي تتحرر وتكريم لبؤساء طحنتهم الظروف والمتغيرات السياسية التي عصفت ببلده وبسبب فكره المعارض وشجاعته فقد قضى سنوات عديدة خارج بلده وأخرج عدد من الأفلام في فرنسا وغيرها ورجع إلى بولندا بعد انهيار الشيوعية في 1989 ليكمل مسيرته الفنية وظل خلف الكاميرا إلى أخر نفس في 10 أكتوبر 2016.
سوف أحاول البعد عن العموميات والانطباعات والخوض في تفاصيل مهمة لفهم سينما فايدا وبعض خصائصها الجمالية وهو يرى أن أجمل الأفلام تأتي دائما بعد الثورات ويعتبر السينما فنا صوريا ويمكن أن تختصر الصورة الكثير من الكلام لذا يعتمد دائما على هذا العنصر ويحبذ الحوار المقتضب والموحي ورغم قسوة الرقابة وسطوتها التي أجبرته على التخلي دائما عن بعض المشاهد في كل أفلامه ومع ذلك تمكن من خوض تجارب حصدت شعبية كبيرة في بولندا ويرى أن الناس تفهم ما يقصده ويصل المعني عبر الصورة، فالقدر ساقه ليكون سينمائيا ليس لغرض المكسب المادي بل لفعل أفلام تقول الحقيقة ولا تخدر الناس أو تمجد نظام الحكم.
الكثير من أفلامه تضج بالأسئلة عن معنى الحرية وموقع الفرد في المجتمع وملامسة التاريخ البولندي لم يكن لهدف توثيقي بل كان يحاصر الواقع الحي بالكثير من الأسئلة المحرجة ليكشف الكثير من خداع السلطة، كما أن أفلامه حفرت بقوة مآسي دامية للشعب البولندي لتظل حية في الذاكرة والضمير الإنساني.
تورقت عبقرية فايدا كسينمائي لترد وتجابه قسوة الرقابة التي كانت تحاصر أي فيلم سينمائي من لحظة تقديمه السيناريو وعندما يجاز يتم ارسال مراقب خلال التصوير والمونتاج ثم يجاز مرة أخرى بعد الإنتاج وتحدد مساحة العرض ونظام الرقابة كان يركز على الحوار لذلك كان فايدا يجعله في المرتبة الثاني ليركز في الصورة لتتضمن المعاني والأفكار فمثلا في فيلمه “كنال” بعد تجاوز البطل المنهك وحبيبته القناة وعند رؤية الضوء نرى الحبيبة تفرح مباشرة بقرب الخروج من هذه القناة المظلمة والباردة لكن المفاجأة أن المنفذ الوحيد مغلق بسياج حديدي متين ونرى جزء من مدينة صوفيا حيث مؤسسات ومباني تابعة للجيش وهكذا تكون النهاية لتلخص فكرة قوية وصاعقة فهمها الناس وأحسّوا بها.
السينما البولندية لها ميزة خاصة ولم تنزلق لتقلد السينما السوفيتية ويرى فايدا أن أفلامه تحمل قلبا نابضا يدق بحيوية وينفتح على الثقافة الغربية ولم تنظر للسينما الغربية كعدو يجب مصارعته، السينما البولندية لم تقبل بواقع الحال ولم تسلم نفسها لخدمة الساسة لذلك تفتحت أذهان الإبداع السينمائي لدعم والتضامن مع الناس وكان فايدا يؤمن أن أي مجتمع دون تاريخ أو ماضي فهو مجرد وهم وهكذا ظل يبحث ويتعمق باحثا عن قوة المجتمع البولندي في ماضيه النضالي ضد الألمان ثم ضد السوفيت ثم ضد الأنظمة القمعية.
يرى فايدا أن إضاءة الوجوه والعيون خاصة تحمل دلالات روحية عميقة وأن السينما فن تعبيري ذاتي وخاص ولكل مخرج ادواته ودلالاته الخاصة ويحكي أن المشهد الأخير في فيلمه الأول سقوط وانتحار البطل المقاوم بعد مقاومته الباسلة للجنود الألمان عبر السلالم الملتوية ليصل ويجد باب الخروج موصدا وبعد نفاذ رصاصه رماهم بمسدسه ورمى بنفسه إلى قاع المبني مفضلا الموت بدلا من وقوعه في قبضة العدو، هذا المشهد ولقطة السقوط تعتبر من أروع اللقطات في تاريخ السينما العالمية، ويعترف أنه من تلك اللحظة أدرك ماهية السينما وماذا يريد منها بالضبط ومن هنا أنطلق كسينمائي.
في فيلمه الأول “الجيل” 1955صور الفقراء وبؤسهم ويعترف فايدا بتأثره بالسينما الايطالية ووصور فضاعة وقسوة الألمان واستعبادهم لشعبه وهو في هذا الفيلم عكس الواقع في زمن تصوير الفيلم وأيضا تسمية الفيلم “الجيل” تعني جيله هو وزملائه وممارستهم للفن السينمائي.
ثم توالت التجارب المثيرة بعمقها وقوة اللغة السينمائية فيلم” القناة”،”ماس ورماد”، “الأرض الموعودة”، “رجل من رخام”، “رجل من حديد”، “دانتون” ، “الانتقام”، “كاتين” إلى أخر فيلم “افتيريماجي”، فايدا ترك ما يقرب من خمسين فيلما أنجزها على مدى ستين عاما، من مسيرته السينمائية الشاقة، أغلب أبطال أفلامه من الشباب الحالم بالحب والمستقبل والحرية وترجم في أفلامه قلقهم وهمومهم وتضحياتهم، الطريق لم يكن مفروشا بالورود بل كانت حياته نضالا بطوليا فقد عاش عاشقا للموروث الشعبي والذاكرة ليعيد صياغتها وإسقاطها على الواقع مثيرا الكثير من الجدل كما عاش محبا للأدب ولكنه تعامل معه بحرفية سينمائية خاصة ولم يتقوقع في أسلوب ضيق ومحدود فالسينما بحث فني متجدد ورحلة في الدواخل الإنسانية.
*سينمائي وكاتب يمني مقيم في فرنسا
المصدر:رأي اليوم