في الحجرات الخلفيّة
هدى بركات
روائية لبنانية
هناك زاوية في القلب تشبه الحجرات الخلفيّة في البيوت القديمة. تلك الحجرات التي تبقى مقفلة زمناً طويلاً، حتّى يأتي صباح، لا نعرف كيف، يهرول أهل البيت لفتح النوافذ والشبابيك على مصراعيها فتنزلق الحجرة الخلفية تلك إلى الصدارة. للهواء والشمس، ولما يكتشفون أو يعاودون اكتشافه ممّا كانوا نسوه هناك. كلّ أشياء الغرفة تأخذ أشكالا واستعمالات جديدة كأنّ ذاكرتها تستيقظ من سبات عميق، كاد يكون موتاً صغيراً من طول الإهمال، وممّا دفعت إليه الأيام دفعا ومن غير تريّث أو خيار.
لا تحتوي الغرف الخلفيّة، في أغراضها التي تستيقظ فجأة، تلك اللهفة الجميلة فقط. إنّها تستقدم أحياناً كثيرة خلطات غامضة من مرارات وندم. ومن شقاء. وحين يحملها ضوء النهار إلى صور نمشي بينها في الحاضر تصبح المعاينة تمرينا صعبا، كأن على حبلين متوازيين يعلوان في الفضاء، ويهتزّان كلّما رفعتَ قدما لتتقدّم خطوة.
أتقدّمُ مع ياسمين إلى بوّابة المدرسة. إنّه يوم عودتها إلى الصفّ. في الشنطة الجديدة وزن يُثقل قليلا على كتفيها الصغيرتين لكنّها تسير بخفّة وشجاعة.
تقف ياسمين على مسافة من أصحابها المتجمّعين قريبا من الصفّ الجديد. تبتسم لهم من بعيد وتحييهم بحركة سلام خفيفة من يدها. لكنّها لا تسير إليهم. كأنّها تنتظر شيئا. يدها الدافئة تطمئنني بأنّها ليست خائفة، وبأنّ الكنزة الخفيفة كانت ضروريّة في هذا الصباح البارد. تنظر ياسمين إليّ كأنها تريد التخفيف من قلقي، وتبتسم لي كمن يحزر مكامن رعبي ليمحوه ويذهب به عنّي. وهي من يقبّلني حين نسمع الجرس ونرى المعلّمة تشير بالدخول. ثمّ، من بعيد، ترسل لي قبلة في الهواء، لمزيد من الّدّعم النفسي، ولتشير بأن عليّ بالذهاب الآن.
أعود إلى يومي الأوّل في المدرسة. أعرف أنّ أمّي تبكي في الباحة الصغيرة فأبكي. أبكي ككلّ الأولاد الذين يبكون. تأخذ المعلّمة يدي من يد أمّي تقريبا بالقوّة. أمشي مع المعلّمة ووجهي ناحية أمّي التي تبتسم لتشجيعي بينما دموعها تنهمر بغزارة.
كلّما قست الأيّام قليلا أشعر بيد المعلّمة وأرى وجه أمّي….
أعود إلى يوم ابنتي الأوّل في المدرسة. كانت ديمة تبكي بحرارة، ولم تنفع تماريني بإخفاء دموعي تماما. كنت أضحك لها بمناسبة اليوم الجميل الذي أصبحت فيه “كبيرة” بما يكفي لتكون الآن وحدها. مشت يدها بيد المعلّمة ووجهها ناحيتي ووجهي ناحية أمّي.
وجهي ناحية أمّي حين تركتُ البلاد. وجهي أنا والولدين ناحية البلاد. سنكون غرباء قلت لهما، وقلت للولدين أيضا : طبعا هذه البلاد ليست بلادنا. لكنّنا هنا لن نموت، هذا أكيد… وفي اليوم التالي لوصولنا ذهبا إلى المدرسة التي لم يكن لهما فيها أصحاب. وأنا وقفت وجهي إلى الحائط أبكي.
وجهه إلى الرمل. لا يمسك بيده أحد. عمره ثلاث سنوات وليس له بكاء يوم المدرسة الأوّل. أيلان الكردي إسمُه ولن تناديه المعلّمة. صورته في صحف الصباح على شاطىء تركي وما زالت القدمان الصغيرتان في الحذاء الصندل. الفتاة التي في مثل عمره تنام على خاصرة المرأة النائمة، عارية القدمين، في حديقة عامّة في بلغراد. الطفلة النائمة تلفّ ذراعها على ما تستطيع احتواءه من خاصرة المرأة، ووراء هذه الأخيرة إمرأة أخرى في الوضعيّة نفسها لكنّها أكبر سنّا. أخمّن أنّ المرأتين هما أم وجدّة الفتاة الصغيرة. تصبح هذه الصورة الأخيرة هناء وسعادة إذ أضعها قرب صورة شاطىء بودروم. وتصبح منىً وأملاً للأطفال الهاربين إذ أقول لنفسي أن لا فرار. وإنّي أزاء صورة واحدة من اثنتين. ولأنّي تشرّدت كثيرا مع ولديّ هربا من الموت أدخل في الصورتين لا محالة، بلا قصد أو إرادة ورغما عنّي فـ”أفضّل” الثانية. وأخجل كثيرا. يشفع لي أنّنا كان يمكن أن نكون هناك، مستلقيات أنا وابنتي وحفيدتي على الشرشف الرقيق في حديقة بلغراد…
أخجل كثيرا أيضا من قلقي على ياسمين وهي تراه فيّ. أقول إنّ عليّ أن أُبقيها هنا في بلد الغربة، وأنّي حسنا فعلت. ثمّ أحتار كيف سأروي لها الأشياء وهي تكبر كلّ يوم.
إنّها حجراتنا الخلفيّة وقد أنارت عليها بعض الصور…
المدن