انت هنا : الرئيسية » اخبار متنوعة » أنبياء من هذا الزمان

أنبياء من هذا الزمان

  يُسمّون بالفرنسيّة .Lanceurs d’alerte  

هدى بركات 

لم أجد ترجمة عربيّة مرضية. هناك “كاشف الفساد” على ويكيبيديا. وهناك “المبلّغ” في ترجمة غوغل. وفي القواميس العربيّة، وحالها معروف ومحزن، لا وجود لهذا التعبير أصلا.  فنحن لا نعرفه لأننا لا نحتاجه، أعني هو غير موجود لأنّه خارج الاستعمال…

التعبير المقصود يعني هؤلاء الذين باتوا العلامة الفارقة للعقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين. الأفراد الذين يكشفون للعالم ما عرفوا عنه ممّا لا يُرضي ضميرهم، واضعين أسرار آلات القوى الجبّارة في حفرة الفضح، ذاهبين في نهج معارضتهم حتّى عرقلة هذه الآلات إن لم يكن تعطيلها. أفراد، مجرّد أفراد، بلا سلطات من أيّ نوع، تتصوّرهم بسهولة وحيدين في غرف مغلقة، معتمة، أمام شاشة مضيئة لساعات أو أيّام أو أكثر، يدخلون إلى بطون الغيلان العملاقة ويوغلون في أحشائها. ولا بدّ أن تتصوّرهم في خوف وتردّد قبل أن يضعوا الكشّافات الضوئية على فساد العالم أمام عيون العالم، وفي تناول من يملك عينين ليرى. ذلك أنّهم يعرفون ما سيصيب حيواتهم بعد ذلك. هؤلاء الذين سيتركون آباءهم وأمّهاتهم وحبيباتهم وأوطانهم ليعيشوا ما تبقّى من أعمارهم في السرّ، في قفص صغير، تحت تهديد بالسجن أو بالقتل اغتيالا، متوجّسين حتى ممّن يحميهم في حال تغيّرت رياح المصالح الكونيّة.

من يشاهد فيلم “المواطن أربعة” الذي فاز بأوسكار الفيلم الوثائقي، ستدهشه سحنة “الفتى” الثلاثيني إدوارد سنودن الشديدة الهدوء والدّعة، وذلك القدر من الشجاعة “العاديّة”. في صوته ذي النبرة المتساوية التي تخلو من أيّة مفاخرة أو تبجّح، وأيضا من أيّ شفقة على الذات أو تباكٍ على المصير، يقول سنودن كيف أنّه لم يكن ليستطيع العيش مع الحقائق التي اكتشفها إذ لا يحتمل ذلك لا ضميره ولا بنيته الأخلاقيّة! يصدّق مشاهد الفيلم كلام سنودن رغم كلّ نواياه – أي المشاهد – بالتشكيك، ورغم تساؤلات فظّة عن “نظافة وحياديّة” نافذة الحريّة التي وفّرتها له هونغ كونغ، حيث أجرت المخرجة لورا بواتراس الحوار معه في غرفة في فندق صغير، أو تلك الأكبر والأوسع التي تفتحها أمام إقامته فيها اليوم روسيا بوتين.. على أيّ حال يبدو أنه ليس هناك بلد أوروبي واحد دعا لاستقبال سنودن، خوفا من زعل أميركا – المتجسّسة – الذي تعتبر سنودن خائنا.

لا يعرض الفيلم قضيّة سنودن بالتفصيل. أعني بالتفصيل الذي يروي كيف اكتشف مستشار الأمن القومي الأميركي السابق أنّ بلاده تتجسس على العالم بأسره، ليس فقط في ما يعني أمنها القومي “المهدّد باستمرار” بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابيّة، بل أيضا لصالح شركاتها التجاريّة العملاقة، من بيع الأدوية إلى مراقبة مختبرات تصميم السيّارات، إلى التنصّت على مكالمات زعماء الحلفاء المقرّبين، إلى السطو على كافة المعلومات التي تضخّها محرّكات البحث العملاقة، إلى إلى… ما لا علاقة له بالأمن القومي الأميركي يشكّل نسبة ثمانين في المئة من نشاطها التجسّسي. الفيلم أقرب إلى رواية تشويق في فنون الجاسوسيّة منه إلى التحقيق. وهذا يبعده، على ما أعتقد، عن المحصّلات السياسيّة ليقرّبه من المسار الإنساني لبطل من هذا الزمان في مواجهة أعتى الأنظمة الكونيّة، بالمعنى الشامل، لا السياسي فقط.. بانتظار الفيلم الروائي الذي يعدّ له حاليا أوليفر ستون…

قبل جوليان أسانج وويكيلكس، وبعد إدوارد سنودن، يمنح فيلم “المواطن أربعة” بعدا رابعا لنوع جديد من البشر، يشبهون هؤلاء الذين كانوا في ما مضى لا يجدون سوى الإيمان بالأديان والتبشير بها حاملا أخلاقيا لمحاسبة القوة المتسلّطة والتصدّي لها. والثمن هو بذل الحياة وإهراق ملذّاتها. الفرد من أجل الجماعة. وجماعة/قضيّة سنودن هي اليوم “العالم أجمع”، كما يقول هو نفسه في الفيلم. ولأن حياة المخرجة تدخل في حيّز هذا النوع الرسولي من البشر، فهي باقترابها من سنودن تروي قصّتها على نحو ما. لورا بواتراس التي بدأت مشروعها الوثائقي باحثة عن وجه أميركا، موطنها، في تحوّلاته بعد الحادي عشر. لها فيلم عن الانتخابات العراقية تحت الاحتلال الأميركي… تبعه تسجيلي عن سجن أبو غريب وآخر عن التائبين المرتدّين عن القاعدة، وانتهى بها الأمر إلى الرحيل والاستقرار في برلين من شدّة  المضايقات “الأمنية” المتواترة التي تعرّضت لها منهجيّا…

هؤلاء الرسل الجدد لن يغيّروا شئيا كثيرا في أحوال العالم. لكنّهم، في حبّة الرمل التي يقذفون بها إلى الآلة العملاقة، يفتحون ثقبا إلى ضوء السماء…

المصدر:المدن

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى