سعيد المرابط: “أجراس لا توقظ أحدًا”.. حكاية عن إفريقيا المضرجة بالدم
سعيد المرابط
المصدر:رأي اليوم
ما إن تفتح دفتي الكتاب، حتى تلج من دفتيه نحو حانةٍ روائيّة سترتشف فيها إبداعًا موريتانيًا معتَّقًا في خوابي الأبجديات، وأنت تستمتع وتستمع إلى جلجلة “أجراس لا توقظ أحدًا” وهي تقرع ذاتها على وقع يراع محمد عبد اللطيف، في 286 صفحة من الحجم المتوسط، مقسمة على 30 فصلًا، والصادرة عن دار “تنمية”.
ومع هذا الكاتب يمكنك أن تستمتع أيضًا، وتعيش نظرية “موت المؤلف” دون تكلفة، فهذا النص الروائي الثالث للكاتب، بعد “تيرانجا” و”كتاب الردة”، له قدرة على أن يترنح بك بين الصوت والصمت، -بوليفونيًا- متنقلا بك بين حانات إيكويي في لاغوس، وفيافي مايدوغوري بنيجيريا، وبارات لندن، فمقاهي إسطنبول، مرورًا بغبار نواكشوط، المدينة التي لم تكن قرية ولم تصبح مدينة! ثم محضرة “أم الطلح” عمق صحراء شنقيط، لتعود إلى أحراش إفريقيا، وهي تعيش إرهاصات ما قبل اندلاع حريق الموت المقدس في أكثر صور الصراعات الدينية تشوهًا وعبثية..
عندما تدخل إلى عالم النص، تمشي بدهشةٍ لتعرف جواب السؤال الذي علقه الكاتب في الغلاف الخلفي للرواية، “ما الذي يبتغيه رجل حقّق كل آماله في الحياة، رجل لم يعد المستقبل أكبر قلقه، بل ما يقلقه حقا -خصوصا بعد التغيرات الأخيرة- تردُّد المثل الكانوري عميقا في وجدانه: إذا شرع النهار في الانتهاء فلا علاج لذلك الأمر؟”.
وفي هذا النص، تجد نفسك مع كل شخصية: في تذبذب القرار، في لحظة الصفاء، في بذخ المدينة، في شظف العيش بقرى إفريقيا، في انشطار الهوية، في تصلب الدين وتشدُّده المدجج بالسلاح، في سماحة المتصوفة، في سطحية الغوغاء، وفي غرائبية الحياة هناك وسحرها الإفريقي؛ فهي تسرد تجربة الهجرة والتمزق في العالم، وتحكي عن صراع الأفراد مع هوياتهم ومع المجتمعات التي ينتمون إليها، كما تقدم رؤية نقدية للتدين التقليدي والمتشدد، وتفتح أسئلة حول قدرة الإنسان على التحرر من إرثه، أو استحالة ذلك أحيانًا!
إنك حين تعيش الحياة في متن الحكاية، تفقد البوصلة، لمن البطولة، هل هي لـ”احمدو ” أو “الشيهو”؛ الشاب العابث، سليل الملوك الأفارقة، الذي غير فَقدُ الأب حياته، أيقظ فيه حنينًا لابنته وأذكى جذوة التدين، أم هي لإبنته ممزقة الهوية ومنشطرة الانتماء بين برد القارة العجوز وحياتها المنفتحة، وبين قرّ القارة السمراء وهمجيتها، أم لـ”يسلم” المتدين الموريتاني الذي يمتلك حاسة الخوف التي تنبئه بالقادم ولا تنجيه منه، أم لهم جميعا بكل أصواتهم المختلفة وهم يلعبون على ركح مسرح الرواية..
إنهم جميعًا بلا بطولة، فالبطولة للمكان في النص الروائي، وبطولة المكان في الرواية دائما تشير إلى الحالات التي يصبح فيها المكان هو العنصر الرئيسي في السرد، لدرجة أنه يتجاوز دوره كخلفية للأحداث ليصبح مؤثرًا فاعلًا في الحبكة والشخصيات والرمزية… وهنا المكان هو إفريقيا، وقد فرض شروطه على الشخصيات، وعلى تصرفات الأبطال، الذين تحكمهم تقاليدهم البائدة وخلفياتهم المضطربة أحيانًا: “حين يمنح الوقت غلافًا سميكًا فلا شيء آخر يرى في المدى غير الرجل المسلّح الملتزم بقواعد غريبة؛ قواعد تمنع الاغتصاب وتبيح الخطف!”، كما نقرأ في الصفحة 249 من الرواية..
وفي بعض الروايات، يكون المكان حاضرًا بقوة لدرجة أنه يكتسب شخصية خاصة به، ويؤثر في تطور الشخصيات وأحداث القصة، وإن أجمل تمثيل بهيّ لهذا النص الشقي؛ هي رواية “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف؛ حيث تصبح الصحراء كيانًا نابضًا بالحياة يعكس تحولات المجتمع، وهنا في هذا النص كانت إفريقيا كيانا ينبض بالموت والألم..
تسيد المكان في الرواية، وتعدد الأبطال، يصنف هذا النص ضمن “الرواية البوليفونية” (Polyphonic Novel)؛ تلك الروايات التي تتعدد فيها الأصوات ووجهات النظر، حيث يغيب صوت الراوي، ولا يكون له تصور مهيمن، بل تتداخل عدة شخصيات بآرائها وأفكارها الخاصة، مما يخلق نصًا متشابكًا غنيًا بالتعددية؛ وذلك ما نراه صريحًا على لسان الراوي نفسه..
ورغم تعدد هذا الأسلوب في الرواية كفنٍّ؛ إلا أن أقرب شيء لهذا النص هو رواية “وليم فوكنر”، “الصخب والعنف”، حيث خلق عبد اللطيف في نصه أصواتا مختلفة السرد، بين كل الفصول، مما يعكس زوايا نظر متعددة لنفس الحدث..
ولكن تلك الذائقة الشعرية الراقية، والاختيار الرائع للأبيات، والذاكرة النافذة إلى بطون ولهوامش الدواوين؛ وهو ما يشي به كل بيت يتصدر كل فصل من رواية الشاعر السابق، الذي اختار اتساع الرواية على ضيق القصيدة؛ جعل للنص رونقًا من بديع حسن الوصف جذابٌ..
ويبقى أن أشير، إلى أن الكاتب، تخلى عن شعره ونثره معًا، بل حتى عن صحافته؛ ففي مقدمة كل فصل كذلك، كان يلخص، في فقرة واحدة، رؤية فلسفية للحياة! ومن خلال ذلك، نكتشف أنه فيلسوف يحاول العيش في الظل، ربما يغطي فلسفته في الكتابة بنبرة الفكاهة، أو الكوميديا السوداء؛ حيث أنه أعطى خلاصة لكل مشاكل التعليم في بلداننا، بصورة كاريكاتورية في شخصية “بدّين البدين”! الذي ورث بالجهل، النميمة وبـ”قوة الشغور” محظرة أم الطلح، فحولها بجهله من مدرسة عتيقة إلى مدرسة لمحو الأمية… وكم هم كثيرون البدناء بيننا!
ولكن رغم تلك التورية، أتقن الكاتب ممارسة فعل التشريح الطبي، فعل الشك الفلسفي، وفعل الغوص النفساني في البشر؛ ليشعَّ مرة أخرى حروفًا لا تخطأ سهامها جرأة اللامفكر فيه في كل أثرٍ يتركه أدبًا، أدبٌ نيطت عليه تمائم ما بين الصحراء والصحراء؛ المنتبذ القصي والربع الخالي..
كا تب مغربي