رواية “على ضفتي المجرى” لبلال أحمد .. تجسيدٌ واقعيٌ للصراع بين الهوية والانتماء في زمن الفوضى
تُعد رواية “على ضفتي المجرى” العمل الأدبي الأول للكاتب اليمني بلال أحمد، الذي نجح في دمج الرمزية مع الواقعية بأسلوب سهل ومؤثر. صدرت الرواية عام 2022 عن الدار اليمنية للكتب والتراث في القاهرة، وحظيت بقبول ملحوظ من القراء والنقاد منذ ظهورها في مكتبات خالد بن الوليد.
تتناول الرواية مجموعة من القضايا الإنسانية المتنوعة من خلال شخصيات نابضة بالحياة، مما يتيح للقارئ التفاعل بعمق مع تجاربهم ومشاعرهم. يُظهر أسلوب بلال أحمد واقع المجتمع اليمني بدقة، مُبرزًا الجوانب الثقافية والاجتماعية السائدة.
صراع الهوية والانتماء في زمن الفوضى
من خلال تحليل الرواية، يتضح كيف تعكس التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها اليمن، حيث تتناول مواضيع الهوية والانتماء والصراع الطبقي. تعتمد الرواية على أدوات سردية مبتكرة تسهم في تعزيز عمق الشخصيات، مما يساعد القارئ على الارتباط بتجاربهم الإنسانية. بهذا الشكل، تضع “على ضفتي المجرى” بلال أحمد في مقدمة الكتّاب الذين يمتلكون القدرة على استكشاف التعقيدات الإنسانية والثقافية في زمن التغيرات الجذرية.
تدور أحداث الرواية حول شخصية أسامة الجمهوري، الذي يمثل الصراع الداخلي الذي يعاني منه الكثيرون في المجتمعات المعاصرة. يتميز أسامة، الذي يحمل في طياته هوية الجمهورية، بالتأرجح بين شعور عميق بعدم الانتماء وفقدان الهوية. يسعى بجد لبناء هوية جديدة تساعده على استعادة توازنه والاندماج مع محيطه، مما يعكس الجهد الدائم للإنسان في العثور على مكان له وسط الفوضى المحيطة.
مع حلول عام 2014، يواجه أسامة منعطفًا حاسمًا، حيث تنهار الهوية التي عاش من أجلها. فهويته الجمهورية، التي كانت ملاذًا وأملًا له، تتلاشى أمام واقع الحرب والفوضى التي اجتاحت البلاد. تتصاعد مشاعر الاغتراب والعزلة لديه، ليظهر الصراع بين الماضي والحاضر، وبين الهوية المفقودة والسعي المستمر لإيجاد معنى جديد.
من الناحية الأدبية، تستخدم الرواية تقنيات سردية متعددة تُظهر براعة بلال أحمد في توظيف اللغة. كما تعكس الرموز المستخدمة عمق التجربة الإنسانية، مما يضفي على النص طابعًا فلسفيًا يستفز القارئ للتفكير في معاني الهوية والانتماء.
استكشاف الديناميكيات الإنسانية في “على ضفتي المجرى”
تمثل رواية “على ضفتي المجرى” شهادة على التجربة الإنسانية في خضم الصراع والاضطرابات، مستعرضة الديناميكيات الاجتماعية المتغيرة في المجتمع اليمني. يسلط النص الضوء على التوترات الناشئة بين الحفاظ على الذات والحاجة إلى التكيف مع موجات التغيير.
تعتبر الرواية وسيلة فنية لرصد وتحليل الأزمات والتحولات التي نمر بها. وقد أسدل بلال أحمد الستار على التغييرات الثقافية والاجتماعية التي شهدها المجتمع اليمني عبر العقود الماضية من خلال شخصياته. ومن خلال هذه الشخصيات، يتمكن القارئ من التعرف على الثقافة السلبية التي تحملها والمفاهيم التي تحكم إدارة الصراعات والمؤسسات بين الأجيال.
الهوية والانتماء في زمن الصراع
ولا يغفل الكاتب عن إدراج لمحة صوفية تدعو القارئ إلى تأمل أعمق، والتعامل مع المآزق الأخلاقية والمعنوية. تطرح الرواية أسئلة عميقة حول الهوية والانتماء، وتحفّز القارئ على التفكير في مصير الجمهورية اليمنية ومدى تأثير التحولات السياسية والاجتماعية عليها.
“على ضفتي المجرى” ليست مجرد سرد لقصة فردية أو اجتماعية، بل شهادة على التحولات العميقة في المجتمع اليمني خلال عقود من الصراعات. بأسلوب يجمع بين الواقعية والماورائية، يقدم بلال أحمد عملاً أدبيًا يُعد علامة فارقة في الأدب اليمني المعاصر.
بهذا الشكل، تنجح رواية “على ضفتي المجرى” في خلق حوار متعدد الأصوات، متجاوزة بذلك حدود الرواية التقليدية. فهي تلتقي بالقارئ على مستوى عميق ومؤثر، مما يُمكنه من المشاركة في صياغة معنى النص من خلال تفاعله معه. وهذا ما يجعل هذه الرواية تستحق وسام التميز في المشهد الروائي اليمني المعاصر.
إليكم بعض الاقتباسات التي تبرز عمق الرواية:
“يؤسفني إخبارك بأن اليمن الواحد الذي ظنناه تحقق، لن يكون نفسه يمننا الذي حلمنا به، لا تبالغ في سقف آمالك كثيرًا، إذ لا تبدو لي الأمور ذاهبة في الاتجاه الصحيح بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانتصر أحد الشريكين على الآخر، القوى ذاتها التي عانينا منها كثيرًا ستكبح مجددًا تطلعات الناس في وطن يوفر لهم الأمان واللقمة والخدمات ويتساوى فيه الجميع أمام القانون؛ تلك القوى ستفرض قيمها باسم حرية مشوهة لن يتأذى منها في الغالب، غير أمثالنا” (صـ 29).
في هذا المقطع، يشعر الكاتب بمرارة الخيبة تجاه تطلعات الشعب اليمني. فحتى بعد انتهاء الحرب، لا تزال القوى التي عانت منها البلاد تهيمن على الواقع، مما يحبط الآمال في بناء وطن آمن. تعكس الكلمات شعورًا عميقًا بأن الحرية، التي تُعلن عنها، ليست سوى واجهة تخفي واقعًا مؤلمًا، حيث يبقى الأفراد الأكثر ضعفًا هم الأكثر تضررًا. ينبه الكاتب إلى ضرورة اليقظة أمام هذه القوى، من أجل استعادة حقوق الناس وتحقيق حلمهم في يمنٍ موحد.
“تراتبيات دأبت على تكريسها السلطات المتعاقبة بأشكال مختلفة منذ عقود مضت؛ يتراءى لي اليوم أنها في طريقها لأن تهيمن من جديد باسم الله والوطن والأخلاق والحرية” (صـ 30).
تتجلى هنا رؤية الكاتب النقدية تجاه السلطات، حيث يبرز كيف أن التراتبيات الاجتماعية والسياسية قد أُعيدت صياغتها تحت ستار القيم المقدسة والوطنية. هذا الاستخدام لأدوات الهيمنة يعكس استمرارية التاريخ وتكرار الأنماط السلبية، مما يستدعي الوعي الجماعي لمواجهة هذه التحديات. إن استغلال القيم السامية كوسيلة للسيطرة يعكس مأساة جديدة، تتطلب من المجتمع أن يكون يقظًا وعزيمته قوية لمقاومة هذه الهيمنة.
“سيقول إننا نكتب مصائرنا في توالي اللحظات وفي أبدية اللحظة، وإننا إذ ننتبه إلى تكرارنا الذي لا يتوقف، فإننا نحمل وعينا معنا ونجسد وجودنا في أبعاد ثلاثة ونظل شباباً إلى الأبد” (صـ 148).
في هذا الاقتباس، يتناول الكاتب مسألة الزمن والوجود، مشيرًا إلى أن الأفراد هم من يصنعون مصائرهم من خلال تكرار اللحظات. يبرز دور الوعي كعصب أساسي يُمكّن الأفراد من التعبير عن هويتهم في أبعاد متعددة، مُعبرًا عن الاستمرارية والتجدد. ورغم كل ما يمر به الناس من تحديات، تبقى روح الشباب والأمل حاضرة في تفاعلهم مع اللحظة الراهنة، مما يمنحهم شعورًا بالخلود الروحي.
بهذه الاقتباسات، نرى كيف تتداخل القضايا الاجتماعية والسياسية مع الوعي الفردي، مما يفتح المجال أمام تأملات عميقة حول الهوية والمصير.
قراءة في عنوان الرواية
يحمل عنوان الرواية “على ضفتي المجرى” معاني عميقة ورمزية، مما يجعله مدخلًا مثيرًا لفهم النص. يُعبر العنوان عن فكرة التواجد بين ضفتين، مما يشير إلى الصراع الداخلي الذي يعيشه الأفراد في زمن الفوضى، ويعكس حالة الانقسام بين الهوية والانتماء.
“المجرى” هنا يمثل مجرى الحياة، ويشير إلى الحركة المستمرة للأحداث والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها المجتمع اليمني. إن وقوف الشخصيات “على ضفتي المجرى” يوحي بأنهم يعيشون حالة من عدم اليقين، حيث يتعين عليهم اتخاذ قرارات حاسمة في وجه التحديات التي يطرحها الواقع. هذه الضفتان تعكسان وجهات نظر مختلفة، تجسد كل منهما جانبًا من الهوية والانتماء، مما يبرز الصراع المستمر الذي يعاني منه الأفراد.
“الضفتان” قد ترمزان أيضًا إلى تنوع الهوية اليمنية، حيث تتداخل الثقافات والتاريخ والتحديات. يسعى الأفراد إلى التوازن بين ماضيهم وحاضرهم، وبين تطلعاتهم للمستقبل. هذه الدينامية تُظهر الصراع الذي يعيشه أسامة الجمهوري، الشخصية الرئيسية، والذي يمثل تجارب العديد من أبناء جيله.
باستخدام هذا العنوان، يُضفي بلال أحمد طابعًا فلسفيًا على النص، مما يدعو القارئ للتأمل في مفاهيم الهوية والانتماء. إن وجود الشخصيات على ضفتي المجرى يعكس حالة من الترقب والتفكير، حيث يواجهون مصائرهم في ظروف غير مستقرة.
كيف ألهمت الظروف الصعبة بلال أحمد للكتابة؟
بلال أحمد، الشاب الذي نشأ في مدينة الحديدة، وانتقل إلى جامعة صنعاء عام 1992 متوجهًا لدراسة الرياضيات وعلوم الكمبيوتر. كان يتمتع بحيوية ونشاط، وعُرف بشغفه بالرياضة والقراءة، وخاصة الروايات. بعد أربع سنوات من الجهد والاجتهاد، تخرج بلال من كلية العلوم عام 1998، ليبدأ مسيرته المهنية في مجال التأمينات.
رغم انشغاله بالعمل، لم يفقد بلال شغفه بالقراءة، فكانت الروايات رفيقته الدائمة في كل لحظة. كان لديه حلم عميق في قلبه: أن يصبح كاتبًا. كان يلتقي بأصدقائه من الكتاب والمثقفين، متبادلًا معهم الآراء والأفكار، مما زاد من شغفه بالأدب ورغبته في التعبير عن نفسه.
مع مرور الوقت، بدأ بلال يشعر بالاستقرار في حياته العملية، مما أتاح له الفرصة للتعمق في اهتماماته الأدبية. جاءت هذه الفرصة بشكل خاص مع بداية الحرب، التي خففت من ضغوطاته اليومية. في تلك الأوقات العصيبة، قرر أن يستثمر طاقته في الكتابة.
روايته “على ضفتي المجرى” تعكس ميلاد كاتب جديد في المشهد السردي اليمني، كاتب يمتلك رؤية واضحة وإبداعية، ويستعد لترك بصمته في عالم الأدب. من خلال موضوعها وأسلوبها، تؤكد الرواية على أهمية الأدب في التعبير عن التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها المجتمع اليمني. باستخدام أدوات فنية مبتكرة وتركيز على تجارب شخصيات متعددة، ينجح بلال في رسم صورة شاملة ومؤثرة للواقع اليمني المعقد. ومن هنا، تُعتبر “على ضفتي المجرى” إضافة مهمة وملفتة للنظر في المشهد الأدبي اليمني المعاصر.
كاتب وصحفي من اليمن