انت هنا : الرئيسية » الواجهة » قصة قصيرة : رسالة في منتصف الليل

قصة قصيرة : رسالة في منتصف الليل

 

بقلم زيد عيسى العتوم

في تلك اللحظات الغارقة في سكونٍ لا ينتهي, وهدوءٍ تتقاذفه جدرانٌ أبت ان لا تصافحه, وانسجام ٌيربط المكان بصمته اللطيف, فيجعلني اتفانى بتلك التمارين التي ادمنت المواظبة في ممارستها, فقد كنت وحيد تلك الجزيرة القريبة الى قلبي, لا صوت فيها يعلو قرب صوتي, ولا ذبابة يجرؤ حماسها الفطريّ على ملامسة فتات انفاسي المتناثرة, وفي تلك الغرفة التي احسست أنها تحتضن ثيابي المبللة بالعرق, وتنبت يداً من سقفها المضاء بشدة, فتساعدني خلسة دون ان ادري, حباً ورفقاً بأكتافي المثقلة بالعزيمة والتعب, وقفت امام تلك المرآة ارقب نفسي واتصفح ثنايا عروقي المتصلبة, أعطيها ذلك الوجه الشرير والاسنان المتراصّة تارة, وفي طريق عودتي امنحها تلك الابتسامة البريئة واللمحات المكللة بالرضى تارة اخرى, وبعد ان اتممت رحلتي واكملت طريقي المرهق, نظرت من تلك النافذة اليتيمة الجاثمة مقابل مرآتي في الجهة الاخرى, كانت الطرقات شبه مظلمة والرياح تترامى في المكان, وكانت اضواء البيوت في معظمها مطفأة او خافتة ربما اجلالاً وتحسباً لوداع ذلك اليوم, تذكرت كم تحوي تلك البيوت في عوالمها, وكم يشقى الكثيرون حتى يلامسوا تلك الوسائد المتفاوتة في نعومتها, وكيف تراودهم وتشاغلهم هواجس الغد, وكم ستلقي بظلالها على لمحات وسكرات دقائقهم الاخيرة, حتى تنتصر عليهم وتنقلهم الى ذلك العالم المزركش بعصارات يومهم, يفعلون ما يريدون وما لا يريدون في سباتهم, ويغرفون من تلك العبثية الدفينة بلا هوادة, ثم ادرت ظهري لتلك النافذة الحزينة, ربما لأودعهم او لأعود الى نفسي التي ربما نسيتها قليلاً, لقد كان الوقت الصامت يشير الى منتصف الليل المطبق عينيه, هممت بمغادرة المكان لكن هاتفي اوقفني بتلك الصافرة السريعة, كان صوتاً اسمعه عشرات المرات في يومي, لم اكترث به كثيراً كعادتي, لكن فضولي أبى الا ان يواجه من كسر هدوئي, وان يقارع ويستكشف من عكّر صفاء تلك البحيرة البعيدة عن الزمان, أمسكت هاتفي الذي عاد لصمته مجدداً, وجلست على مقعد بالقرب من تلك المرآة الشامخة الى يساري, كانت رسالة قادمة لي, بدأت بقراءة تلك الرسالة, ومنذ ان عرفت مرسلها اخذت دقات قلبي تتسارع, وعادت انفاسي تتصاعد, وفي منتصف تلك الرسالة الموجعة ادرت وجهي صوب تلك المرآة راغباً في ان لا ارى نفسي, او ان اراها خالية حتى من تفاصيل المكان, ولكني كنت محور كونها ومركز بريقها الرهيب, عدت مرة أخرى لأكمل ما قرأت, بل عدت لأبدأ من جديد في قراءتها, فلربما يندحر الزمن قليلاً الى الوراء, ولربما يتغير أي شيء وبأي طريقة, لكن الواقع قد تمترس في حضوره, وتركني اسير بطشه, فلم تتغير الصورة في باطنها ولم تتبادل الأحرف في مواضعها, وكانت الرسالة موجهة لي نفسي, ومن مكان العمل الذي قام بالاطمئنان على عامليه وانا احدهم, يخبرونني ان تلك النتائج التي لم اكترث بانتظارها قد حضرت, وان تلك الفاكهة السوداء قد حان قطافها, نعم انا مصاب بذلك الوباء اللعين, انا مصاب به هكذا تقول اختباراتهم المؤكدة, وتنصحني تلك الرسالة المقيتة بأن الزم بيتي ولا اغادره, لأن كورونا قد غدا ضيفي ورفيق لحظاتي, وانيس عالمي الجديد, وخليط دمي الوليد, لا املك الاعتذار منه ولا استطيع اطباق عينيّ امامه, وقد حان الاوان لاستسلم للقدر واضع اوراقي الحزينة على منضدة الانتظار, شعرت ان وزني ينقص تدريجياً, واضغاث افكاري تتلاطم في الوحل, نعم انا مصاب وهاذا هو الواقع الذي لا مفرّ منه.

 بعد ان تيقنت صحة الأمر وتلمّست أذرع الحقيقة, أنزلت هاتفي من يدي بمنتهى البطء مستسلماً, وجلست على الارض متكئاً قرب ما تبقى من ذاتي الحزينة, انتابني شعورٌ رهيب من الوحدة, فكنت كمن قذفته الارض في فضائها الذي لا ينتهي, تلمّست وجهي كنحات أعمى يجتهد في منحوتته, ثم تحركت عيناي صوب تلك النافذة التي ازدادت ضيقاً وصمتت قهراً, ومشيت نحوها دون ان أدري, احسست أن السماء السوداء تراقبني بفضول غريب, فأكملت المسير صوب سريري مسترخياً, تُرى هل سريري ايضاً مشبع بذلك المرض القذر!, وهل وسادتي قد اصبحت مقيتة!, وهل انا ما زلت انا!, كانت بالقرب مني إحدى الروايات التي أحضرتها مؤخراً, فكرت في امساكها ربما لأهرب خلف كواليسها المتخيّلة, ولكن لماذا؟ فلربما لن اتمكن من إكمالها او حتى الشعور بها, ولربما ستجرّ لي مزيداً من الكآبة فوق كآبتي, فلتبقى اذن حيث هي, فعدت واستلقيت مجدداً وكلي نية مبيتة أن افكر بأي شيء قد يسرق افكاري, او يحفّز ذاكرتي فأغرق في اي ماض, رأيت نفسي طفلاً ساحته الدنيا ودنياه الأمل, لكنني بلمح البصر رأيت جدي مريضاً شاحباً يلفظ آخر انفاسه, فأغمضت عينيّ بقسوة ثم اعدت فتحهما من جديد, رأيت ثلة من اصدقاء عمري يتراكضون, وحفنة مكسّرة من الوجوه التي عرفتها واللحظات التي ظننت نسيانها, وفجأة سألت نفسي: تُرى من سيبكيني منهم إن رحلت عن هذه الدنيا؟ ومن سيذكرني إن غادرت قارب الحياة مبكراً؟, امتعضت قليلاً وفكرت مجدداً أن ابحث عن تلك الرسالة, فلربما كانت مجرد خطأ وكنت انا مجرد واهم, لا لن افعل ذلك لأن ذلك لن يجدي نفعاً, ثم عدت لأقف امام المرآة مرة أخرى, ولكن هذه المرة كنت اتفحص وجهي جيداً, هل هو بنفس اللون؟ هل تلك عيناي وتلك نظرتي التي الفتها؟ وهل ربما لن اتمكن من مشاهدة نفسي إن صرعني ذلك الزائر اللئيم؟, وضعت يدي اليمنى على المرآة ربما لأبحث عن نفسي, او اتلمّس كينونتي او لأصافح نفسي آخر مرة, ثم شعرت بدوار هائل, وكان الضوء يُغرق المكان كما لو كنت اقف امام الشمس بنيرانها المهولة, حاولت أن اتلفّت حولي لأمسك بأي بقعة ظلام او استقوي بأي طوقٍ للنجاة, كنت أرى حدود الأشياء وحوافها ليس اكثر, كنت لا أرى التفاصيل ربما في طريقي الى ان لا أرى بتاتاً!.

 أدركت لحظتها كم نحن ضعفاء وأشقياء وحالمون, وأن كل شيء بلا قيمة وبدون أي جدوى, سقطت على الارض او هكذا احسست, لم اشعر بألم السقوط بل ربما انعشتني لذّة الخلاص, وأدركت أن الاستسلام قد يكون ارحم المتاح لي, وفجأة كانت تترامى الى مسامعي اصوات لم اعرفها ولم اتفهم صراخها, وكان جسدي يهتزّ بكامله دون إرادتي, وفمي يكاد يتسول الماء من القدر, وانفاسي تكاد أن تخبو, أفلحت فجأة بفتح ما تيسر لي من عينيّ المثقلتين, كانت الجدران من جانبيّ تتراكض الى الوراء, والاضواء من فوقي تحاول جاهدة اللحاق بها, رأيت وجهاً يبتسم لي وهو يبكي, ويداً مرتجفة تمسك بيدي, كانت شقيقتي التي تعمل طبيبة في المشفى الذي أحسب انني صرت نزيله الآن, وكان الجميع يدفعونني بشكل هستيريّ صوب إحدى الغرف في آخر الممر, وكانوا يتلفتون حولهم حتى لا اصطدم بشيء, اغمضت عينيّ من جديد, ثم حاولت أن أسترق النظر ما دمت حياً او هكذا ظننت, فأبصرت وجهان جاحظان مكمّمان يرتديان نفس غطاء الرأس, كان احدهم يحدّق بي بعمق, والآخر كان منفعلاً ومستعجلاً, حيث اطبق قطعة سوداء ثقيلة على فمي, وكان يثبت رأسي بكلتا يديه لدرجة الألم الشديد, وهرع الآخر للضغط بقوة فوق صدري بكامل ثقله, كان جسدي متمسمراً ومتيبساً, رأيت أمي في مخيلتي, كانت تنتظر عودتي في منزلنا القديم, وكانت بيديها تحثّني على الاقتراب منها, اردت احتضانها لكنها ابتعدت عني فجأة ولم استطع حتى مناداتها, عرفت أنها النهاية وأن لا عودة الى الوراء, سمعت صوت قلبي يتسارع بلا هوادة, وكنت انتظر فناءه بأي لحظة, كان الصوت يتصاعد ويتصاعد, والضيق يزداد ويشتد, والضجيج يملأ سكرات روحي, ورائحة الموت تتعجّل رحيلي, وفجأة أفقت التمس الهواء واستجدي الحياة, كان صوت المنبه في غرفتي يملأ المكان, لقد كان حلماً!, وأنا ما زلت حيّاً!……  

عن الكاتب

عدد المقالات : 1615

اكتب تعليق

الصعود لأعلى